إحياء النموذج (نص شعري) – تحليل قصيدة 'أريج المسك' لمحمد بن ابراهيم

التأطير

عاش العالم العربي خلال أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين تحولات تاريخية وحضارية وثقافية وفكرية ساهمت في خلق نهضة واسعة تجسدت في ظهور حركات فكرية متعددة القناعات الفكرية والخلفيات الإيديولوجية (ليبرالية – علمانية – سلفية ) نادت بالتحرر من نير الاستعمار، وتجاوز مظاهر الجمود والتخلف ورواسب عصر الانحطاط، وتجسدت أيضا في ظهور حركة شعرية موازية سعت إلى إحياء نموذج القصيدة العربية القديمة وفق قواعد عمود الشعر كما حددها المرزوقي في شرحه لديوان ''الحماسة'' لأبي تمام، ومثلت – خلال عملية استعادة المتن الشعري العربي القديم – بداية انعطافة جديدة في الشعر العربي عنوانها القضاء على مظاهر الجمود التي أصابت الإبداع الشعري في عصر الانحطاط، وحصرته في الزخرفة اللفظية والمعاني المستغلقة والأساليب المبتذلة والتكلف والإسراف في المحسنات البديعية، والتلاعب اللفظي، وغير ذلك.

وقد قامت هذه الحركة الإحيائية على استلهام الخصائص البنائية والفنية للقصيدة القديمة، وعملت على بعث تقاليد الشعر/ النموذج والأجواء الإبداعية المرتبطة به اعتمادا على تقليد فحول الشعراء ومحاكاتهم ومعارضتهم وخصوصا شعراء العصرين الجاهلي والعباسي، ومكنتها هذه الوسائل الإحيائية، واطلاعها الواسع على نماذجه المشرقة من جعل الشعر والشاعر يستعيدان المكانة اللائقة بهما في المشهد الأدبي النهضوي، وأصبح لهذه الحركة الإحيائية معارضون، ومناصرون وأتباع كثر في كل البلدان العربية وتجاوز صداها المشرق العربي ليصل إلى الغرب الإسلامي في تونس والجزائر والمغرب، بل أصبح بعض الشعراء المغاربة من أبرز أعلام المدرسة الإحيائية من أمثال علال الفاسي، محمد الحلوي، المختار السوسي، وطبعا صاحب النص محمد بن إبراهيم الملقب بشاعر الحمراء.

فما هي مضامين هذا النص ؟ ما المعجم المهيمن على هذه المضامين؟ما الذي يميز خصائصه الفنية ؟ وإلى أي حد نجح الشاعر في جعل قصيدته تمثل الاتجاه الشعري الذي تنتمي إليه ؟

التحليل

المضامين

استهل الشاعر قصيدته بالحديث عن معاناته وشكواه من مصائب الدهر وأعاديه، وهي مصائب جعلت حياته قاسية وكئيبة وجعلته يعتبرها أكبر معاناته لأن زمن الانحطاط والابتذال الذي يعيش فيه لا يرقى إلى ما يتحلى به من الشهامة ونبل الأخلاق، ثم انتقل إلى التماس العذر من صحبه وخلانه بسبب حالة الضعف التي أصبح يعيشها تحت وطأة العيش وعذاباته التي أوصلته حد أن يرى في البكاء عزاء يخفف عنه ضغط زمن التردي الذي يعيش فيه، لكن ضعفه أمام الهوى وصروف الدهر لم يمنعاه من إبراز ملامح قوته المتمثلة في خصاله الحميدة (المجد، الشجاعة، العلم، الغنى، الأخلاق، الحكمة...)، وامتلاكه لناصية الإبداع، وقدرته على نظم جميل الشعر وأعذبه دون تكلف أو تصنع مما يجعل المعاني تأتي إليه سهلة منسابة وغير مسبوقة عند غيره من الشعراء، ومن افتخاره بشعره وموهبته انتقل إلى الافتخار بأهله وصحبه وأخلاقهم واصفا إياهم بالصفاء والود وحسن الخلق واللباقة والاستعداد الدائم لتقديم العون، واختتم القصيدة بتوجيه النصح للناس كي يعملوا على تخليد أنفسهم وتحصين محاسن الأخلاق حتى يخلدوا بذكراهم عند الناس والتاريخ والله، ويمكن تقسيم هذه المضامين إلى الوحدات التالية:

  • الوحدة الأولى (1 – 3): التماس الشاعر من مخاطبيه الاستفراد بذاته بعيدا عن زمنه الكئيب عله يجد في البكاء عزاء.
  • الوحدة الثانية (4 – 12): استعراض الشاعر مناقب النبل والشهامة والملكة الفكرية والشعرية التي ينفرد بها.
  • الوحدة الثالثة (13 – 18): إشادة الشاعر بصحبه وبما يجمعهم من ود خالص كثمرة لخصالهم النبيلة.
  • الوحدة الرابعة (19 – 20):التأكيد على خلود الإنسان بفضائله الحميدة عبر التاريخ.

المـعـجـم

اعتمد الشاعر في إبراز مضامين النص على معجم تقليدي ينهل من اللغة التراثية من قبيل: (صارم، العضب، القعب، مناجيد، أقيال...)، وتتوزعه ثلاثة حقول دلالية:

حـــقـل الشــكـــــوى دعوني – أحزاني – يسوؤني – خطب مدهي – يسوؤني – دموعا – أحزاني – سكب...
حـــقـل الفــخـــر أتيه – أزهو – شامخ الأنف – تعرفني الأخلاق – مجد – المال – الجاه – الصحب الأخلاق – الفضل – النهى – العلم الآداب – قريضي – قريحتي – قافية عصماء – خير إخوان
حــقــل الحــكمــة تابع – يشكرك – ذكره – فضيلة ء فعاله – الكسب – ثابر – كسب المحامد – يشكرك التاريخ والناس والرب...

تربط بين هذه الحقول علاقة تكامل لأن شكوى الشاعر من ظروف حياته حفزته على الافتخار بنفسه وإظهار مزايا ذاته وصحبه، بل جعلته في موقع من يسدي النصح للناس ويمدهم بالحكمة التي راكمها عبر تجربته الحياتية، ويهيمن حقل الافتخار على باقي الحقول الدلالية الأخرى بسبب رغبة الشاعر في إبراز خصاله وفخره بنفسه وتمجيد ذاته.

خصائص النص الفنية

الصور الشعرية

أما من الناحية الفنية فقد اعتمدت الصور الشعرية في النص على مكونات البلاغة القديمة وخصوصا مباحث علم البيان من تشبيه وكناية واستعارة ومجاز، وهي في أغلبها صور حسية، ذات وظيفة جمالية وتزيينية، كالتشبيه الوارد في البيت السابع عشر: (حديثهم كأنفاس زهر الروض)، حيث شبه حديث أصحابه في حسنه بأنفاس الروض في رائحته، وهي صورة قائمة على تشبيه مفرد بمفرد. والاستعارة المكنية الواردة في البيت السادس: (تعرفني الأخلاق – تعرفني الآداب )، حيث حذف المستعار منه (الإنسان)، وأبقى على أحد لوازمه (المعرفة)، والكناية الواردة في البيت الخامس في قوله: (شامخ الأنف)، حيث كنى عن عزته ووجاهته بشموخ أنفه، وواضح من كل هذا أن الشاعر اقتفى في الصور الشعرية طريقة القدماء في جعل الصور وصفية ذات طبيعة حسية مادية.

الأساليب

أما على مستوى الأساليب فقد مزج الشاعر بين الأسلوبين الإنشائي والخبري، حيث استعمل الأول للكشف عن حالته الوجدانية الانفعالية كما يدل على ذلك أسلوب النداء الوارد في البيت الأول، وأسلوب النهي (فلا تذكروا) الوارد في البيت الثالث، بالإضافة إلى أسلوب الأمر في قوله:(فثابر على كسب المحامد) الوارد في البيت ما قبل الأخير، واعتمد الثاني (الأسلوب الخبري) كوسيلة للإخبار بمعاناته وافتخاره بنفسه وخصاله ومجده وصحبه، ولهذا هيمن هذا الأسلوب بصيغه الابتدائية والطلبية والإنكارية على معظم أبيات النص وزاوجت جمله بين الفعلية والاسمية.

البنية الإيقاعية

1) الإيقاع الخارجي: على مستوى البنية الإيقاعية نظم الشاعر قصيدته، من حيث إيقاعها الخارجي، على وزن بحر الطويل، وهو من البحور الخليلية المركبة (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن×2) وتتناسب تفاعيله الثمانية مع غرض النص الرئيس (الفخر)، كما اعتمد الشاعر قافية موحدة، مطلقة، متواترة حيث ما بين ساكنيها حركة واحدة ورويها (الباء وهو من الحروف المجهورة الشديدة) موحد متحرك، يضاف إلى ذلك التصريع الوارد في مطلع القصيدة حيث تساوت العروض والضرب (مفاعلن) .

2) الإيقاع الداخلي :أما فيما يتعلق بالإيقاع الداخلي للنص، فيتميز النص بظاهرة تكرار حروف بعينها أهمها روي القصيدة الذي تكرر في كل أبياتها، ثم حرف السين والصاد والهاء ...، وهي من الحروف المهموسة الرخوة المناسبة لغرض الشكوى. ولم يقف التكرار عند حدود الحروف/الأصوات، بل تعداه إلى تكرار بعض الألفاظ (دموع، سكبتها، سكب، تعرفني..)، وهذا التكرار يلعب دورا توكيديا يزكي غرضي الفخر والشكوى، ويسهم في خلق انسجام موسيقى النص الداخلية. كما تتميز القصيدة بظاهرة التوازي الذي تراوح بين التوازي الصرفي المتعلق ببنية الكلمات من قبيل: (القلب، الخطب، سكب، عضب، صحب، قعب...) والتوازي التركيبي التام كما في قوله: وتعرفني الأخلاق والفضل والنهى *** وتعرفني الآداب والعلـم والكتـب. والتوازي التركيبي الجزئي، كما في قوله: وما المرء إلا ذكره بفضيلة *** وما ذكره إلا فعاله والكسب. وقد ساهم التكرار والتوازي في خلق موسيقى النص الداخلية، وأضفيا عليه مسحة تزيينية إيقاعية مناسبة لأغراضه، وأسهما في وضع المتلقي أمام مقصدية الشاعر، الذي لم يخرج عما ألفناه في الشعر العربي القديم.

تركيب واستنتاج

خلاصة نخرج بها من كل ما تقدم هي أن القصيدة قامت في مضامينها على ثلاثة مواضيع هي الشكوى والفخر والحكمة، وعبر خلالها الشاعر عن شدة معاناته من قهرا لدهر والهوى، وهو ما أضعف صبره وأسال دمعه، وفرض عليه طلب العذر من الصحب والخلان، دون أن يمنعه من الافتخار بمزاياه ومحاسنه وموهبته وصحبه، بل تعدى ذلك ليمدنا بالحكمة والنصيحة الداعية إلى ترك الأثر وتخليد النفس، وقد عبر الشاعر عن هذه المضامين بأساليب بلاغية تنتمي إلى علم البيان، وصور شعرية حسية، ومعجم تقليدي يوظف لغة وصور ومعاني الأقدمين.

نستنتج من كل ما سبق أن هذا النص يمثل بوضوح شعر البعث والإحياء، فشكل القصيدة الهندسي تقليدي، قائم على نظام الشطرين المتناظرين، ووحدة البيت، والوزن، والقافية، والروي، وتصريع المطلع، ومضمونها تميز بتعدد الأغراض وهي سمة تقليدية في القصيدة العمودية، ومعجمها تقليدي يمتح من اللغة التراثية، وصورها الشعرية حسية مادية تنهل من مباحث البلاغة العربية القديمة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز، ولم يخرج إيقاع القصيدة عن مظاهر تقليد الشعر النموذج القائمة على أسس عمود الشعر.