ابن الرومي في مدن الصفيح - قراءة تركيبية

القراءة التركيبية

لقد تبين لنا أثناء القراءة التحليلية أن هذا العمل المسرحي يمثل حلقة مهمة في تطور الكتابة المسرحية المغربية والعربية على السواء، وهو يلتقي إلى حد كبير مع بعض التجارب المسرحية الاحتفالية الأخرى كأعمال الطيب الصديقي على سبيل المثال لا الحصر.

وقد لاحظنا أن جميع المبادئ الاحتفالية كانت مجسدة في هذا النص، سواء من حيث الموضوعات أو من حيث وسائل التعبير والعرض المسرحي.

و أهم هذه المبادئ تحريك الواقع ومحاولة استشراف المستقبل، فموضوع المسرحية كما رأينا هو واقع التفاوت الحاصل بين فئة اجتماعية تسكن مدن القصدير وفئة أخرى تمعن في استغلالها. وقد عبر الكاتب عن ذلك بترسانة من الوسائل الفنية والتعبيرية المستمدة من التاريخ والتراث الثقافي العربي، واستطاع أن يعيد تشكيل قطاع اجتماعي نموذجي يمثل الإنسان الواقع تحت ظروف الاستغلال القاسية، كما عالج مشكلة المرأة ووسع نطاق دائرة الاستغلال التي تسحقها في القديم والحديث، في العالم العربي وخارج العالم العربي. وتوسل في معالجة القضايا المطروحة ذات الأبعاد النفسية والعاطفية بآليات السخرية والإضحاك والتمسرح واللغة الشعرية والغناء والإنشاد والسرد الخطابي، ووصف مشاهد الديكور وأشكال الحكي الشعبي والأسطوري، بالإضافة إلى حضور الخطاب الواصف في تضاعيف الحوار بين الشخصيات، وهو ما جعل المسرحية بمثابة مهرجان فني ودلالي ونقدي يستحق الاهتمام والتقدير.

ولعل هذا ما جعل النقاد المغاربة المهتمين بالمسرح الاحتفالي (وخاصة منهم عبد الرحمان بن زيدان) يرون أن < الاحتفالية كشكل من أشكال الوعي بالمسرح العربي، وبالتأصيل والسياقات العربية والعالمية، كانت تدعوا إلى معرفة هزات العصر وهزات الواقع وأعطاب التاريخ العربي، كي يسهل الدخول إلى زمن الكتابة الدرامية العربية كتعبير عن ارتباط الذات بموضوعها أو التعبير عن هذا الموضوع بأطروحات جديدة تبحث عن الممكن والمحال في اللغة وبناء الشخصيات وفي نقد خلل العلاقات داخل الوطن العربي >.

وعبر عبد الكريم برشيد نفسه عن الغاية الأساسية من الاحتفالية فقال: < طموح الاحتفالية كان وما يزال أكبر وأخطر من مجرد تقديم نصوص مسرحية ولقاءات فنية، لأن الأساس هو إيجاد مجتمع عربي آخر يكون أكثر حقيقية وأكثر حيوية وأكثر صدقا وأكثر تحررا، وأن يكون الإنسان فاعلا بالمسرح ومنفعلا به (…) كذلك تهدف الاحتفالية إلى إيجاد مدينة فاضلة أخرى يعيش فيها الإنسان ويتعايش مع النبات وتختفي فيها الغابات الإسمنتية القاتلة….)

لقد نظر عبد الكريم برشيد إلى الاحتفالية من زاوية كونها حركة مسرحية تسير في ركاب النزعة الأنتربولوجية باعتبارها تحمل دعوة إلى الأصول، وفي هذا الصدد لاحظ حسن يوسفي أن << ظهور “الاحتفالية” كاتجاه مسرحي خرج من رحم مسرح الهواة كان مؤشرا على بروز ما نسميه بالحساسية الأنتربولوجية في المسرح المغربي، لاسيما وأنه اتجاه جعل من مسألة العودة إلى الأصول قضيته المركزية(…) إن هذا المنطق الذي يتقاسمه برشيد مع من دعوا قبله إلى الاحتفال في التقليد الغربي منذ جان جاك روسو حتى آخر تيارات الطليعة الغربية يترجم نزوعا نحو ترسيخ مختلف القيم الإنسانية التي يقوم عليها الاحتفال وعلى رأسها الحس الجماعي والتواصل المباشر، وهما- كما نعلم- خاصيتان أساسيتان لما سماه الأنتربولوجيون بـ: “المجتمعات الأصلية” >>.

وقد فهمت الاحتفالية في كثير من ردود الفعل النقدية السلبية بطريقة تبسيطية أي باعتبارها دعوة للاحتفال بمفهومه الظاهر أي الغناء والرقص والفرح، وهذا ما جعلها عرضة لانتقادات عنيفة وخاصة من خصومها المسيسين. وقد انبرى عبد الكريم برشيد للرد على هذه الانتقادات وإعادة رسم معالم تصوره لمفهوم الاحتفالية مرات عديدة باعتبارها صورة حية عن الواقع الاجتماعي بكل مل فيه من فرح وحزن على السواء.