القصة (نص قصصي) - تحليل نص 'دم ودخان' لمبارك ربيع

إشكالية القراءة

ظهرت القصة القصيرة وتطورت نتيجة عوامل موضوعية وذاتية، منها : التفات الكتاب إلى الواقع ونقل قضاياه وحركة الترجمة واهتمام الطبقات الوسطى بالكتابة القصصية وظهور الصحافة وتطورها. وهي فن سردي، ينقل سلسلة محدودة من الأحداث والمواقف، يتميز بقدرته على التقاط تفاصيل الحياة الاجتماعية في بعدها اليومي المعيش.

ظهرت في المغرب في فترة الثلاثينات، واقترن ظهورها بالوظيفة الوطنية، ومع الاستقلال نضجت وتميزت عن الأشكال السردية التقليدية، وهيمن عليها الاتجاه الواقعي، فعالجت أوضاع الفلاح والعامل الكادح و المرأة وغيرها من القضايا ( عبد الكريم غلاب، إبراهيم بوعلو، عبد المجيد بن جلون، ). وفي السبعينات ظهر التجريب والمغامرة فبدأت بخرق القواعد التقليدية للكتابة السردية. (عز الدين التازي، الميلودي شغموم، محمد برادة، أحمد بوزفور، ومبارك ربيع المولود سنة 1940 بقرية بن معاشو قرب البيضاء، الحاصل على الإجازة في الفلسفة سنة 1967، وعلى دبلوم الدراسات العليا في علم النفس سنة 1975، وعلى دكتوراه الدولة سنة 1988. من أعماله : مجموعته القصصية (سيدنا قدر) و(حلة الحب والحصاد)، و(البلور المكسور) وروايات (الطيبون) و(رفقة السلاح والقمر) و(برج السعود) و( من جبالنا). وقد أُخذ هذا النص من مجموعته (دم ودخان). فما الموضوع الذي يطرحه الكاتب في هذه القصة ؟ وما موقفه منه ؟ وما الوسائل الفنية التي وظفها للتعبير عنه ؟

النص متواليات سردية دالة على وقائع وحالات ووضعيات، وعلى برنامج سردي. ووجود السارد، والشخصيات، والأحداث، والإطار الزماني والمكاني، يدخل النص ضمن الفنون السردية. والعنوان مركب عطفي يحيل على حدث مفصلي ومؤثثات، فدم يرمز للحياة والرهبة والموت، ودخان يوحي بضبابية الرؤية ومجهول يخفي مكروها.. وواو العطف تدل على اقتران الدم والدخان بجو مأساوي مرعب. وهي إيحاأت تعضدها مشيرات في بداية النص ونهايته: ” سرت في ذراعه برودة الكحول، وانغرزت شوكة وصوتُ الطبيب يأمره بلُطف “، ” قطرات الدم تتساقط في الزجاجة داكنة مع نبضاته ” ؛ ” بدت له قطع الكبد الملفوف بالشحم … مجرد بقع دخانية أشد كثافة ” حيث يبدو أن دحمان انتقل بسبب الفقر والعيال من فقدان الدم إلى فقدان الوعي والإحساس.

من خلال ملاحظة المشيرات السابقة نفترض أن النص قصة قصيرة، موضوعه اجتماعي ذو بعد إنساني.. فما هي السمات الفنية المميزة لها؟ وكيف تعبر عن واقع متشعب معقد، وهي الفن القائم على الاختزال بامتياز ؟

اكتشاف المعنى وبناؤه: المتن الحكائي

دحمان رجل فقير، يبيع دمه لمن هو في حاجة إليه مقابل عشرة دراهم، يشتري بها ما تشتهيه زوجته وأبناؤه. ولكن حالته الصحية تضررت بتكرار عملية بيع دمه، فازدادت أحواله النفسية سوأ، وبدأ يفقد صفاء رؤية المحيط الأسري والاجتماعي من حوله، بل وفقد الإحساس بالقيم.. فلم يعد ينفعه تمرد صوت الضمير، أو يعرف للسعادة طعما..

تحليل النص

الحدث

يتضمن المتن الحكائي حدثا مركزا في زمن مكثف (وحدة الحدث) مشحون بأبعاد ودلالات وإيحاأت معبرة،. ويعرض الحدث من خلال لقطة موجزة، ويتأسس على شخصية واحدة يرصد ما يقع لها من أحوال، ويصدر عنها من أفعال، وتعيشه من وضعيات. فهي تبيع دمها حتى تدهورت صحتها، واصمحل وعيها، وتكاد تفقد قيمتها وكرامتها من أجل أن تدفع الخصاص عن أسرتها بأسلوب مهين ومهلك.

القوى الفاعلة

القوى الفاعلة في هذه القصة هي: دحمان، المعلم علي، الزوجة، الأبناء، الطبيب، الممرض، أهل المريضة، الممرضة ذات اليد النعامة، الرجل المجلبب (الوسيط)، الفقر، الضمير… وباستثناء دحمان الشخصية الرئيسية التي تبدو جاهزة ومسطحة بشكل ما تنمو ببطء نحو نهاية بائسة فباقي الشخصيات ثانوية أو عرضية عابرة تحيط بدحمان تصنع مأساته أو تخففها، بيد أن الفقر والإعياء كقوة فاعلة ملازم للحدث والشخصية الرئيسية يتماهى فيهما.

البعد النفسـي

يتمظهر في الوهن النفسي وعدم القدرة على التركيز والشرود الذهني الذي قد يصل حد الإعياء الشديد بسبب تصدع نفسي وصراع داخلي بين دواعي الفقر وداعي الضمير، وبسبب الأمل الخادع في تحسين الوضعيةالاجتماعية الذي يتحول إلى مرض وإحباط وانكفاء وانعزال.

البعد الاجتماعي / المظاهر والعلاقات

دحمان يقوم بمجموعة من الأدوار والأفعال، منها الدور العائلي الذي يتحدد في علاقة برود عاطفي بينه وبين زوجته، والدور الاجتماعي الذي يتحدد في علاقة الصراع بينه وبين مستنزفيه، ويحدد وضعه الاجتماعي؛ فهو في حاجة ماسة إلى عشرة دراهم، فقير، جاهل، عاطل عن العمل، متزوج وله أبناء. ويمكننا هذان الدوران من تحديد نوعية العلاقات بين الممثلين، واستغلالها، خاصة علاقة الصراع في تحديد الحالات والتحولات على مستوى التركيب السردي.

إن القصة تكشف، في بعدها الاجتماعي – الواقعي، عن موقف انتقادي ساخر من الفاقة التي ترزح تحتها الطبقات المسحوقة في المجتمع المغربي، ودحمان أحد رموزها الدالة، فهو يعيش وضعية اجتماعية مزرية، وواقعا جائرا مليئا بالإحباط والاستغلال المادي والمعنوي يصل حد اليأس من الحياة، والتخلي عن الكرامة.

القيم والأنساق الفكرية

إننا لم ندرس العلاقات التفاعلية بين العوامل إلا لنبين ما تُفرزه من أنساق وقيم فكرية، فالنص يعكس قيما إنسانية أصيلة، يمثلها الطبيب والأسرة، وقيما سلبية هجينة تتمثل في استغلال بعض الفئات والمؤسسات للضعفاء في المجتمع. وقد بنى الكاتب الأحداث على شخصية ” دحمان” الذي يتحرك، وتصدر عنه انطباعات، ويعكس أحوالا، أكثر مما تصدر عنه أفعال، إنه مركز العلاقة بين مختلف القوى الفاعلة، إذ يرتبط مع غيره بشبكة من العلاقات تمكن المتلقي من التقاط عناصر الصورة التي يحاول الكاتب رسمها لهذه الشخصية، ومن ثم التفاعل معها. إن العلاقات تمنح القوى الفاعلة الدينامية اللازمة للقيام بالفعل، وتطوير الحدث، وهذه العلاقات يمكن رصدها من خلال النموذج العاملي وفق الخطاطة التالية : استطاع الكاتب اقتطاع تجربة متميزة من الواقع الاجتماعي من خلال وضعية شخصية متخيلة، وجسد كثيرا من أبعادها الاجتماعية والنفسية بغية رسم صورة لنموذج بشري من صميم الواقع المغربي، والتي نجد معادلها الموضوعي في الشرائح الاجتماعية المهمشة في العالم العربي.

الزمـــن

نجد في النص صيغا أسلوبية دالة عى الزمن، منها: ” عندما توقف دحمان “، ” كان ذلك عندما فُتح الباب “، فزمن القصة يعود إلى مرحلة ماضية من حياة السارد، إذن فهم زمن استرجاعي يعول على الذاكرة. والزمن المهيمن هو الزمن النفسي، حيث التركيز على اللحظة النفسية لدحمان، حين يسرح بذكرياته متأملا متألما. وزمن القصة تعاقبي تتطور الأحداث فيه وفق خط تصاعدي، رغم أن اللحظة الزمنية الواردة في النص هي لحظة استرجاع مبنية على إبراز الحالة النفسية المزرية لدحمان.

والزمن في النص متعدد الأبعاد :

  • زمن الحدث : الصباح، ويتجزأ إلى الأزمنة التالية : (زمن الذهاب إلى المستشفى، وزمن الوقوف عند الجزار، وزمن الاسترجاع)
  • زمن تاريخي : (فترة السبعينات)، وهو زمن تصاعدي تعاقبي، ويتجه اتجاها تصاعديا يتسلسل من البداية إلى النهاية.
  • زمن نفسي / داخلي : ويمتد عبر الأقصوصة مجسدا بؤرة تمزق وإحباط ” دحمان ” في مواجهة وضعه المأساوي.
  • زمن سردي : زمن الكتابة وهو ليس الزمن الذي وقعت فيه الأحداث، إذ ثمة مسافة زمنية بين ما حدث وما يحكى. وزمن السرد يخلط أفعالا متنوعة، ويعمل على تكسير الزمن الخطي / التعاقبي بتقنيات التداعي والتداخل بين الماضي والحاضر، حيث يحضر في النص البناء الدائري الحلزوني. إلا أن القارئ يبقى مشدودا إلى حال الشخصية التي ينقل الكاتب من خلالها الفكرة والموقف، وذلك رغم البون الشاسع بين زمن الحكاية وزمن السرد، وهذا بفضل عنصر الاتساق. ويبقى القاسم المشترك بين زمن القصة / الحكاية وزمن السرد يتجلى في كونه ذا إيقاع سريع، وخطي.

المكــان

يدور الحدث في فضاء البيت والمستشفى ومحل الجزار(المعلم علي)، وهي أماكن مغلقة توحي بالأجواء النفسية المتأزمة لدحمان، فالبيت يعكس صورة العوز وانسداد الأفق بأثاثه المتواضع، كما يشي بانتماء جتماعي بسيط، ومستواه ثقافي متدن، ونمط وعي هش. والبيت مكان للاستقرار النفسي والسكينة والراحة، ولكنه في النص غدا مكانا للمعاناة والاستنزاف والموت. والمستشفى مؤسسة تمنح العلاج والأمل في الحياة، ولكنه في النص أصبح فضاء للاستغلال. والشارع بات مكانا للإرهاق والتعب والصراع ضد الخصوم والشعور بالذل والظلم وتأنيب الضمير.

المكان بؤرة دلالية واحدة، تجسد الرؤية والمقصدية، وهذا ما يضفي عليه سمة التجانس. فالمكان غير متعدد الأبعاد، ومع ذلك يتخذ دلالته الفنية، رغم مظاهره الهندسية والشكلية التي تظهره بفعل تأثيثه مكانا واقعيا، في إيحائه بالجو العام للقصة (هيمنة الدخان عليه)، وبالفكرة والموقف والمغزى، خطر الفقر ونتائجه. إن الفضاء المكاني مظهر من مظاهر الواقعية في النص.

الوصـــف

إن هيمنة السرد لم تلغ الوصف، فهناك جمل وصفية كثيرة، مثل : ” اتسخت لطول العهد والإهمال “،” وبحشرجة صوت غير مطاوع أجاب دحمان ”. ولعل وظيفة الوصف هنا هي إيقاف السرد وسيرورة الحدث، لهذا جاء مركزا ينتقي بعض الأحوال النفسية والمواقف الوجدانية لدحمان لإضاءتها انسجاما مع طبيعة الفصة القصيرة التي تتوخى تقديم صورة دالة على حال الشخصية المحورية، والكشف عن بعدها النفسي والاجتماعي، من خلال علامتين دالتين هما الدم والدخان. وقد جاء الوصف متداخلا مع السرد لا مقاطع مستقلة، بحيث لا يتسع مجال الأقصوصة لذكر تفاصيل المكان، بل للتركيز على دلالات اجتماعية ونفسية وإنسانية، فهو وصف ثنائي الدلالة، ثنائي المعنى، باعتباره يحدد الإطار الذي يقوم بتحرير الطبقة الاجتماعية ومستواها السوسيو – سيكولوجي في علاقة وطيدة بين الإطار والدلالة.

الســـرد

يتضح من خلال القصة أنها تنقل إلينا موقفا من الكاتب تجاه وضعية نموذج بشري، يصارع أعباء الحياة في ظروف اجتماعية انحلت فيها منظومة القيم، وقد أوكل الكاتب مهمة السرد إلى سارد مكلف بعملية التوصيل والإبلاغ ونقل الوقائع في بناء فني محكم، معتمدا ضمير الغائب، إذ استهل النص بقوله : ” عندما توقف دحمان عند مسطبة المعلم علي ”، ولكن الذي يمد هذا السارد بالمعلومات والوقائع هو الكاتب في عملية تمويهية، توهم القارئ بواقعية الأحداث والشخصيات. فالكاتب يراهن في تحقيق وجهة نظره على أسلوب خاص للسرد، مقترحا على القارئ قبول أعراف النوع الأدبي الذي ينتمي إليه النص، فينساق مع وجهة نظر الكاتب في شأن واقع تتصارع فيه قوى فاعلة، تحركها دوافع ورغبات ومصالح تريد تحقيقها لكسب الرهان عبر برنامج سردي.

وقد تحكمت الرؤية من خلف إلى حد كبير، في التقنيات السردية المعتمدة، إذ يبدو السارد عالما بدقائق الأحداث، والخلفيات الفكرية والنفسية للشخصيات، فهو يعرض أفعال القوى الفاعلة وفق منظور سردي فوقي، تم التوسل به للإيهام بواقعية المحكي، ويؤثث الفضاء الزماني والمكاني، ويتدخل لتنظيم السرد، إما بتعطيله، أو استرجاعه، أو بتقديم التوضيح والتحليل. ثم إنه شديد الحرص على توضيح صورة الفقر والعوز لدى البطل من منظور النقد والسخرية، من هنا اهتمامه بالوصف والحوار الداخلي، لإبراز الملامح الاجتماعية المزرية للبطل، فنمط السرد السائد في هذه القصة يتميز بتقديم الشخصية والحدث والفضاء تقديما مباشرا بواسطة السرد والوصف.

يبدو السارد ظاهريا كأنه متوار باستعماله ضمير الغائب (هو)، لكن التأمل الدقيق في بنية النص يُبرز أن السارد حاضر ومهيمن، وتؤكد ذلك ذلك المشيرات النصية التالية :

  • إن السارد يتصرف في زمن السرد كما يريد ويختزل مسافته : ” عندما ”، ” كان ذلك عندما ” …
  • الحضور البارز للسارد في ادعائه المعرفة بكل ما يدور في خلج الشخصيات وشواغلها : تأمل العبارات الدالة على ذلك في النص : ” كان بوده لو ملك قدرة على الكلام في هذه اللحظة، وإذن لثرثر كثيرا مع العم علي … ”
  • إيراد الشروح والتعاليق : ” كان يشعر باعتزاز، ثم فقد هذا الشعور شيئا فشيئا، كما يفقد كل جديد رُواءه.. ”
  • رغم استعمال الضمير ( هو ) الذي يوحي بتواري السارد، فإن هذا الأخير كما رأيت حاضر بقوة يعلم كل شيء حتى أنك لتخاله الكاتب نفسه يتوجه إليك بالأخبار وسرد للوقائع بصورة مكشوفة سقطت فيها المسافة بينه وبين ما يروي.

الـبــنــاء (الحبكة)

نشأ الفعل السردي مع توقف دحمان عند مسطبة المعلم علي، واتخذ مسارا متدرجا على مستوى تعاقب الأحداث وتسلسلها الزمني، فالخيط الرابط بين مقاطع القصة هو التركيز على فكرة واحدة هي رفض واقع دحمان وحالته المزرية، وانتقاد المؤسسات الاجتماعية المسؤولة عن وضعيته المتأزمة. ولتبليغ هذه الفكرة عمد الكاتب إلى بنائها من خلال قصة متخيلة، تتدرج من الرغبة المنهكة في الكبد والشحم، وتنتهي إلى الهذيان والتداعي. وبين البداية والنهاية تمتد الحكاية في سيرورة سردية ترتكز على وصف الحالة المأساوية للبطل.

اختار الكاتب لقصته البناء الحلزوني / الدائري ؛ فالقصة تبدأ من حيث انتهت الحكاية معتمدة مقياس التعاقب الزمني للأحداث على حساب التنظيم التيمي كشكل من أشكال الاتساق، فهذا التنظيم لا يتحكم في تنامي الحدث، ولا في تطوره. ونلاحظ انعدام الذروة البنائية في النص، الذي تتكثف دلالته وإيحاؤه ومغزاه في نهايته، التي تشرك القارئ في احتمالات الحدث غير المصرح به، والمتمثل في السؤال المفترض، وهو ماذا بعد هذيان وتداعيات دحمان ؟ وما دلالات وأبعاد ذلك؟

وإذا أردنا تحديد خطاطة النص السردية، فإننا نلاحظ أن السارد استهل القصة باستهلال دينامي قادنا معه إلى قلب الحدث مباشرة، وأنهاها بنهاية تفيد التأمل. من تم فالعلاقة بين الاستهلال والنهاية هي علاقة تشابه، إذ بدأت القصة بخلل وانتهت به. ولا شك أن وظيفة الاستهلال هي إقناعنا برسالة الكاتب عن طريق الإيهام بواقعية الأحداث وتحديد أفق انتظارنا.

كانت النهاية تكريسا لأزمة دحمان المشار إليها في بداية القصة، إذ بدأ النص بخلل وانتهى به، وبالتالي لم يقدم الكاتب حلا لهذا الخلل تعبيرا منه موقفه الضمني المتمثل في انتقاد هذه الظاهرة الاجتماعية الإنسانية، التي تجسد هدر كرامة الإنسان وحقه في الحياة.

من هنا فالبناء المعماري الموظف في النص يخدم موقف الكاتب ويساهم في ترسيخ دلالة السخرية من المجتمع وما يسوده من ظواهر اجتماعية سلبية.

الـحـــوار

الحوار الخارجي

دار بين دحمان من جهة، والطبيب والمعلم علي وأهل المريضة من جهة ثانية، وهو حوار يبين بعض مظاهر أفعال الكلام تعكس درامية الأحداث مثل : السخرية : ” الكلمة عشرة “، ” يبيع حياته بعشرة”، والتعبير عن الرغبة، والتواصل، والصراع، والتمويه ” صائم يا سيدي “.

الحوار الداخلي

اهتم به الكاتب كثيرا للكشف عن جانب من نفسية الشخصية وبعض آمالها وأمانيها المفتقدة، وترجمة الانفعالات والتوترات الداخلية لدحمان

وقد أسهم الحوار الداخلي الكشف عن أسرار الشخصية، وتصعيد الأحداث وإغناء تصور القارئ لها، وتقريبه من الأنماط السلوكية للشخصيات وتضارب مواقفها بغية إدراك الفوارق بينها، والكشف عن الدلالة والمغزى، مما يطبع النص والفضاء التخييلي فيه بالدينامية التي تحول المحكي إلى حركة تحفز خيال القارئ وتدفع به إلى الانخراط في عملية توليد معنى النص بواسطة التأويل.

اللغــة

يغلب على اللغة حقل دلالي اجتماعي وآخر نفسي، وتقل في النص الأبعاد التصويرية والمجازية، وتغلب فيه اللغة الناطقة بحال دحمان وتوحي بوضعه الاجتماعي وحالته النفسية. واعتمد الكاتب جملا قصيرة تسهم في توتير المتلقي من خلال تنامي النفس الدرامي داخل النص. كما جاءت لغة القصة متنوعة، إذ زاوجت بين الفصحى والعامية، مثل ” الكلمة هي الرجلْ ـ الكلمة عشْرة..” للتأكيد على الانتماء الاجتماعي والمستوى الثقافي للشخصية، وإضفاء البعد الواقعي على المحكي، والمساعدة على تحقيق الرهان المتمثل في لفت نظر القارئ إلى هدر الكرامة الإنسانية في مجتمع تنعدم فيه فرص التضامن والمساواة والحقوق الضرورية للبقاء.

التـركيـب والتقويم

التقط الكاتب تجربة متميزة لنموذج بشري يعكس حالة العوز التي يعاني منها المسحوقون تحت وطأة الفقر، ووظف إمكانات القصة، لرسم صورة لشخصية مأزومة محبطة تكابد من أجل لقمة العيش، وتعاني الحرمان وانعدام الكرامة.. إنها صورة مستمدة من الواقع الاجتماعي من خلال وضعية شخصية متخيلة، تجسد كثيرا من أبعادها الاجتماعية والنفسية، وذلك بغية رسم صورة لنموذج بشري من صميم الواقع المغربي، والتي نجد معادلها الموضوعي في الشرائح الاجتماعية المهمشة اجتماعيا.

تتضمن قصة ” دم ودخان ” عناصر القصة ؛ كالشخصية، والحادثة، والفكرة / الموقف، والمغزى.. وقد وردت هذه المكونات في بناء فني محكم، يتسم بالاختزال في نقل الوقائع والأحوال، واتساق التصميم، ووحدة الأثر والانطباع، والأزمة، وتكثيف الزمن في لحظة عابرة وكأنها لقطة أو مشهد مقتطع من الحياة اليومية بلغة مختزلة. هذا إضافة إلى وحدة الشخصية والزمان والمكان والحدث، الذي اهتم به الكاتب كثيرا، مما يشير إلى واقعية النص.كما تتميز بالبناء الكلاسيكي للحكاية ( مقدمة – وسط – نهاية )، وتعبر عن الشمولي والكلي من خلال اليومي البسيط والجزئي، وتتسم بالتناسق والانسجام بين عناصر الحكي لبلوغ نهاية القصة، حيث يتجسد مغزاها وبعدها الدلالي.

وقد جسد الكاتب في هذا النموذج كثيرا من إمكانات القصة كنوع أدبي جميل، فرغم قصرها، فإنها ترسم الشخصية بأبعاد النفسية والسلوكية والاجتماعية، وتنقل المكان والزمان بتجلياتهما وأنماطهما الفنية، كما تجسد اللغة بمستوياتها الواقعية والفنية.

النص نموذج للاتجاه التصويري الواقعي في القصة، إذ يعالج قضايا الكادحين في المجتمع.. ويلامس واقع حياتهم، وعلاقاتهم الاجتماعية في ضوء إكراهات العصر المتسارعة والمواكبة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. وينتقد القيم الهجينة في المجتمع كالاستغلال وهدر كرامة الإنسان. ويعالج مسألة انهيار القيم ومبادئ التكافل … وكلها قضايا وأبعاد يلائمها جنس القصة القصيرة، وهو رهان الكاتب، وتحيل القصة على المرحلة الثانية من مراحل تطور القصة القصيرة خيث هيمن الاتجاه التصويري الواقعي في كتابة القصة بالمغرب، والذي يهتم بتصوير حياة الكادحين والعمال والفلاحين، ورصد أهم التحولات الاقتصادية والاجتماعية وانعكاساتها على فئات المجتمع. ويعتبر مبارك ربيع أحد كبار رواد الفن القصصي، وتمكن من ضبط آليات تفاعلات الواقع الجزئية وفضح تناقضاته ونقلها في قالب قصصي متميز، تحكمه رؤية فنية عميقة، حيث اتخذه وسيلة فنية للتعبير عن مواقفه.

يجمع أسلوب الكاتب بين الوضوح والإيحاء والإيجاز والتنويع في طبيعة الجمل، وجاءت لغته خليطا من العامية والفصحى، مما ينقل حالة من الأحوال المخصوصة للشخصية. إلا أن الكاتب اهتم بالفكرة على حساب جمالية التعبير، واعتمد البناء الكلاسيكي، ولجأ أحيانا إلى التدخل المباشر للسارد.. ويمكن القول إنه لا توجد مغامرة أسلوبية تنم عن جديد محدث، فالنص قائم على معطيات أسلوبية راسخة يستند إليها المؤلف من أجل الحفاظ على متانة الوشائج التي تصله بالقارئ. إنه – بسماته الأسلوبية تلك – يستجيب لذاكرة القارئ أكثر مما يحرص على هدم جسر التواصل بينهما، وفي ذلك عدم خرق كبير لأفق انتظاره.

وأخيرا فما وقفنا عنده من سمات فنية للقصة القصيرة من خلال هذا النموذج، وكيفية تجسيده لعلاقة الذات بالواقع الاجتماعي، هو جزء من حركة تطورية للأشكال الأدبية النثرية الحديثة، في دينامية لازالت عواملها تتفاعل في مناخ ثقافي واجتماعي عربي يطفح بأسئلة وإشكاليات فنية / جمالية، وفكرية.