تجديد الرؤيا (نموذج شعري) - تحليل قصيدة 'البئر المهجورة' ليوسف الخال

إشكالية النص وفرضيات القراءة

إن التحول الذي عرفه الشعر لم يقف عند التمرد على الثوابت العروضية كما كان ديدن أصحاب تكسير البنية. بل تجاوز ذلك إلى إرساء أفق رؤيوي جديد يضمن ديمومة المشروع الحداثي الشعري، أفق يقوم على مفهوم الرؤيا باعتباره كشفا متجددا لعالم في حاجة دائما إلى كشف وثورة، ومن ثم ينعدم النموذج الشعري. ولا سبيل إلى الرؤيا بغير التخطي والتجاوز والانفتاح على التجارب العالمية وإعادة قراءة التراث الإنساني بمنظور جديد. وإذا كانت القراءة النصية الأفقية غالبا ما تتخذ مطية لإثبات تصور مسبق أو معيار ثابت، فإن قراءتنا للبئر المهجورة ليوسف الخال لن تتجه نحو نفس المقصد، بل ترصد التضاريس الفنية المميزة لهذا الممتد الشعري على مستويات عدة اعتبارا لكون النص لحمة متماسكة من علاقات تفاعلية بين عناصر سطحية وعميقة.

تفضي الملاحظة الأولية لشكل النص إلى إدراجه ضمن الخطابات الشعرية المتمردة على الثوابت (تجديد الرؤيا). فما حدود هذا التمرد ؟ وما تجلياته ؟ الجواب رهين بمقاربة القصيدة في جميع مستوياتها. وأول ما يثيرنا عنوانها، وهي إثارة تؤول إلى مفارقة كامنة داخله يفرزها التداعي. فالبئر في الموروث الثقافي ترمز إلى الحياة لوجود الماء، وإلى الإخفاء لعمقها الملتبس بالإيجاب أو السلب، إلا أن وصفها بالمهجورة يجعلها مناسبة للإخفاء والستر. ألم يتخذ أبناء يعقوب البئر مكانا لإخفاء النبي يوسف عليه السلام فكانت محنته الأولى. وعلى أساس هذه المحنة يمكن افتراض مأساوية التجربة التي قد يعبر عنها يوسف الخال. فما دواعي هذه المأساوية بناء على هذا الافتراض ؟

فهم النص

يمكن تقسيم هذه القصيدة الى 4 مقاطع بحسب الاصوات المستعملة فيها:

  • مقطع على لسان الراوي (أوّل 5 اسطر)، يشرح فيه علاقته بالشخصية التي تدور حولها القصيدة وهي شخصية ابراهيم. ويلاحظ هنا التنافر والاصطدام بين ابراهيم الذي يصوره الشاعر بئراً يفيض ماؤها دلالة على العطاء والخير، وبين سائر البشر الذين لا يعيرونها ادنى اهتمام ايجابياً كان او سلبياً.
  • مقطع على لسان ابراهيم يتخلله تعليق قصير للراوي يبدأ بقول ابراهيم : “لو كان لي ان انشر الجبيين …” ويمتد الى قوله :”… ليبصر الطريقة” (22 سطراً)، وفيه ينقل الراوي الينا حديثاً مباشراً لابراهيم في رسالة كتبها ابراهيم بدمه الطليل كما يقول الراوي. وتبرز هنا رؤيا ابراهيم واحلامه في تغيير الواقع والوجود من خلال تساؤلات تشمل الطبيعة، وعلاقة الانسان بالطبيعة وحياة الانسان كمركز للوجود. وتكشف هذه التساؤلات ان احلام ابراهيم كبيرة ويتطلب تحقيقها تفجيير امكانات خارقة للمألوف.
  • مقطع على لسان الراوي يتخلله حديث مباشر بصوت مجهول يبدأ بقول الراوي : ” وحين صوب العدو مدفع الردى” ويمتد الى قوله “… لعله جنون ” (16 سطراً)، وفي هذا المقطع يتحدث الراوي عن (ابراهيم) ومن معه من الجنود الذين يواجهون سيلا من رصاص العدو فيصيح بهم صوت مجهول ان يتقهقروا الى الوراء. فيتقهقر الجميع الا ابراهيم الذي ظل سائراً الى الامام متحدياً الرصاص، واذ سقط ابراهيم يقول الآخرون كما يورد الراوي: انه الجنون، ويعلق :لعله الجنون. نلاحظ في هذا المقطع تكرار: “تقهقروا” مرتين في موضعين: الأول:صوت مجهول،والثاني: صدى الصوت الأول. كذلك نلاحظ تكرار ( لكن ابراهيم ظل ساهراً) في موضعين، وذلك تأكيداً على ان ابراهيم لم يعر التحذير اهتماماً ولم يبالِ بالموت.
  • مقطع على لسان الراوي ويبدأ بقوله: “لكنني عرفت جاري العزيز…” ويمتد الى نهاية القصيدة: “… ترمي بها حجر” (6 اسطر)، وهو يشكل اعادة لكلمات المقطع الأول مما يعطي القصيدة شكلاً دائرياً لا مغلقاً، وهو شكل مستحب عند الكثيرين من انصار الشعر الحديث ومتبع لديهم.

تعلن القصيدة في مدخلها عن العلاقة الحميمية بين الذات وإبراهيم باعتباره شخصية محورية تنجز الفعل وتحققه دون تراجع. إبراهيم إنسان عادي، يحمل اسمه ايحاء دينيا وتاريخيا مستمدا من النبي إبراهيم الذي صدق الرؤيا وعزم على تنفيذها، ومستمدا من المسيح المخلص بحسب عقيدة المسيحيين. إن ما يميز إبراهيم داخل عالم القصيدة هو علاقاته بالآخرين، فهو مصدر الحياة والعطاء في صحراء تنعدم فيها شروط الحياة، لكن الآخرين لا يهتمون به نفس اهتمامه بهم، فالعلاقة غير متعادلة. إذ رغم كونه يمنحهم الحياة باعتباره البئر التي يفيض ماؤها يكن له الآخرون اللامبالاة وينعتونه بالجنون.

في الوحدة الثانية تنمو القصيدة وتتطور عبر التركيز على إبراهيم مرة أخرى، وفعل التضحية الفردي يؤشر عليه بتكرار الفعل المشروط: لو كان لي….. الذي يقدم عليه لبعث الجماعة الميتة. إبراهيم هنا هو المسيح الذي يفدي العالم بموته ما دام يشعر بمسؤوليته تجاه الآخرين. إن إبراهيم هنا ليس من أجل استمرار الحياة فحسب بل لتغييرها إلى الأفضل. ومن مظاهر هذا التغيير تحول الطبيعة التي لن تعرف غير الربيع وتحول العقبان عن طبيعتها الافتراسية فيعم السلام والأمن وتسترجع المعامل والشوارع والحقول طبيعتها الحية التي فقدها الإنسان المعاصر، كما يسترجع الإنسان كرامته ويعود الضال التائه إلى أرض معاده. ولعل هذه المبادئ الحياةألسلمألكرامةءمحو الخطيئة هي المبادئ التي ضحى من أجلها المسيح قديما ويضحي من أجلها إبراهيم راهنا فإبراهيم هو مخلص الإنسان حديثا. إن هذه المتمنيات التي صيغت عبر استفهامات ستتحول إلى واقع في الوحدة الثالثة حين واجه إبراهيم الرصاص والموت ورماه الآخرون بالجنون.

تحليل النص

المعجم

تأسيسا على القراءة الأفقية السابقة يجوز توزيع مؤشرات المعجم الشعري إلى حقلين دلالين:

معجم الحياة معجم الموت
يفيض ماؤها – تبرعم الغصون في الخريف – يحول الغدير سيره – ينعقد الثمرء يطلع النبات في الحجر – أن أعيش من جديد – لا تمزق العقبان قوافل الضحايا – يأكل الفقير خبز يومه بعرق الجبين – يعود يولسيس – يبصر الطريق… أنشر الجبين على سارية الضياء من جديد – دمه – أن أموت من جديد – دمعة الذليل – العدو – مدافع الردى – الرصاص – لم يسمع الصدى – ظل سائرا…

وانطلاقا من هذا التصنيف للحقلين الدلالين تبدو الخلفية الكامنة وراء تشكيل الرؤيا دينية متمثلة في إبراهيم والمسيح، وربما موسى باستحضار علاقته بابنتي شعيب لحظة السقيا من البئر، والفلسفة الوجودية باعتبارها مرجعية مجلة شعر. إن الرموز هنا تمثل الغربة والافتداء والموت الفردي من أجل الجماعة. وهي تمثل كذلك قيما ومواقف ورؤى تصب كلها في رفض الزمان والمكان والثقافة والمجتمع وتتطلع إلى بديل آخر، إنها تحمل تناقضا وجوديا بين ذاتها العازمة على اختيار تجربتها المتميزة وبين المجتمع الذي يحاول أن يخضع هذه الذات القلقة لقيمه. إن ما يميز المواد المعجمية هو قربها من الحياة اليومية رغبة من الشاعر في الزج بالقصيدة في ما يمكن أن نسميه ‘المتداول المعجمي المألوڤ. وهذا متناسب مع دعوة الخال الشهيرة إلى استخدام اللغة المحكية في المتن الشعري باعتبارها لغة الحياة والناس، فيما الفصحى في نظره لغة متعالية، ميتة تتمدد، باسترخاء الجثة، في قبرها التاريخي حسب تعبيره.

الصور الشعرية

على مستوى الصور الشعرية يبدو أن يوسف الخال وجد في الصورة متنفساً للهروب من سلطة اللغة عبر الانزياحات الدلالية والرمز والأسطورة التي مثلت من جهة قدرة الشاعر على اختراق اللغة وتفجيرها وشحنها بتداعيات جديدة خارج المحمول الإشاري الجاهز. ومن جهة ثانية كشفت عن الرؤيا الشعرية الجامعة بين خاصيتين، خاصية الاقتراب من المألوف المعجمي، وخاصية الكثافة الدلالية المتولدة عن الانزياح والرمز والأسطورة. وتأسيسا على هذا أصبحت الوظائف الممكنة للصورة الشعرية تغريبية وبنيوية:” يحول الغدير سيره كأن تبرعم الغصون في الخريف”. فإذا كانت الوظيفة البنيوية للصورة الشعرية تتمثل في المشاركة الفعلية للمتلقي في بناء القصيدة بناء عضوياً اعتمادا على تأويل الرموز والأساطير فإن التغريب يؤول إلى المفارقات ا لبعيدة بين مكونات الصورة التي يمنحها التأويل انسجامها. ولننظر مثلا إلى جمع الشاعر بين المتنافر في قوله “أتضحك المعامل الدخان؟”. إذ الدلالات السياقية للدخان السوداوية والمعاناة، والمحمول الفعلي “تضحك” يدل وفق المألوف على الانتشاء، غير أن الانسجام يتحقق بحمل الضحك على السخرية….

ورغم كثرة الصور وتراكمها في القصيدة فإننا يمكن أن نكثفها في دلالتي النبوة والتضحية، حيث تحضر الذات الشاعرة كنبي وضحية في نفس الآن: تستشرف المستقبل وتبشر به، ويقف المجتمع ضدها ويضطهدها كما اضطهد الأنبياء. ولما فشلت الذات/ الرمز في تحقيق مشروعها انعزلت وانطوت على ذاتها بتخطي الواقع والمجتمع مستبدلة إياه بالرؤيا الميتافيزيقية، ومن سمات هذه الرؤيا الرفض والغربة والنفي والوحدة والحرمان والاضطهاد، وما هذه السمات إلا مظهر من مظاهر الخلفية الفلسفية الوجودية، ناهيك عن قرار اختيار الذات نفسها مرجعا للتمثلات والقناعات، فإبراهيم لم يستجب لنداء الجماعة، ولم يفضل ما فضله رفاقه من العودة إلى الوراء؛ لأن مصدر معرفته اليقينية ذاته، ووجب عليه أن يعيش هذه المعرفة كتجربة حياتية فيختار طريق الجنون من منظور الآخرين، طريق الحياة من منظوره هو، فوقع فريسة الاغتراب الناتج عن انعدام التواصل وعن الانفصال والتعارض الذي لم يقتصر على الذات والآخر، بل تجاوز ذلك إلى التعارض بين حضارة الصحراء المرفوضة وحضارة الماء المأمولة. وهذا الكشف الشعري ليس كله تخييلا، بل ينبني على مرجعية إيديولوجية تكمن في المشروع القومي الحداثي، فالماء والصحراء رمزان لحضارتين متعارضتين حضارة العرب وحضارة الغرب المتوسطية.

الأسلوب

إن الشرخ الهائل بين الذات والعناصر المؤثثة للفضاء الشعري من جماد وإنسان ترسم قسماته قصيدة البئر المهجورة مستعيرة الرمز والأسطورة: إبراهيم – المسيح – أوليسء أوديب – الخروف. ووجود البئر في الصحراء كبشير خير وبركة يقوي التداخل العميق بين النص المقدس (المتن الديني) وبين القصيدة تداخلا تذوب داخله تفاصيل أحداث المحكي الأصلي (التقابل بين إبراهيم النبي/خليل الله وإبراهيم المضحي/خليل الشاعر. المسيح المصلوب وإبراهيم المصلوب على سارية الضياء رغبة في تحقيق العدل وتحقيق التطهير). وتتحكم في بنية التصوير وجدلية العلاقات حركتان: تتجسد الأولى في صورة إبراهيم قبل التضحية والثانية بعد التضحية وما نتج عنهما من تحولات في الرؤى والمواقف من لامبالاة إلى اندهاش. فالحركة الأولى تأسست على أساليب الرجاء (إمكان التحقق) والتمني (استحالة التحقق). لقد تواترت العبارة “لوكان لي” خمس مرات تارة تتعلق بالتضحية وتارة بالافتداء مؤسسة رغبة في الفعل(الإرادة) ومخمنة ما يترتب عن الفعل المأمول من تحول يمس الطبيعة الناطقة والصامتة ويمس الحضارة والإنسان. لقد تحول المعجز من إطار الغيب إلى الإطار الإنساني من تضحية إبراهيم بابنه استجابة لأمر الله إلى تضحية إبراهيم بنفسه لمحو الظلم ونشر العدل والمحبة والسعادة. وفي إطار المتن الديني دائما تماهت الشخصية المركزية من جديد مع المسيح تعبيرا عن الخلاص ومحو الخطايا.

واقترن المسيح في هذا التشكيل باستحضار أوليس البطل الميثولوجي الذي يعاني عذاباً شديداً على المستوى النفسي والجسدي والذهني ويجتاز المهالك منذ مستهل رحلته حتى يحقق هدفه النهائي، ويؤوب منتصراً إلى المكان الذي انطلق منه. أما الحركة الثانية فانتقال من القول إلى الفعل وتأكيد حضور الذات لحظة المواجهة والتصدي والاستشهاد ونكوص الآخرين، ومع ذلك لم يكن محل تقدير من قومه. وانطلاقا من هنا يبدو البناء العضوي للقصيدة الذي ساهمت متماسكا بفعل الكثير من العناصر، من بينها الأساليب الموظفة والضمائر والإيقاع الخارجي والداخلي.

على مستوى التركيب النحوي والتداولي نوع النص بين الخبري الابتدائي والإنشاء عبر صيغ غاب فيها المحتوى القضوي المباشر وحضرت فيه القوة الإنجازية الاستلزامية المرتبطة بالرؤيا الكامنة خلف المواد المعجمية والتشكيل التركيبي وطوابعهما الإشارية الموحية والغامضة التي تصب في التطلعات المتعلقة بتثبيت القيم الإنسانية النبيلة وثراء الحياة وخصبها، كالاستفهام في قول الشاعر: ” ترى ، يحول الغدير سيره…ويطلع النبات في الحجر؟” أتبسط السماء وجهها فلا تمزق العقبان في الفلاة قوافل الضحايا؟… ” والتمني “لو كان لي أن أموت أن أعيش من جديد” فقد حافظ الشاعر فيهما على معنى الاستحالة وإن كان يرتبط بالرغبة والإرادة في الفعل، والأمر «تقهقروا، تقهقروا”. الصادر عن آمر مجهول وكأنه الصوت الخفي الذي يسيطر على الآخرين ويشكل لديهم الثابت الذي لا يمكن التمرد عليه باستثناء إبراهيم. ورافق هذا التنويع في الأسلوب تنويع في الجمل الفعلية بين الحاضر والمستقبل وبين الماضي. وإذا كان الماضي يحدد زمن علاقة السارد بإبراهيم الضاربة في القدم، والمصير الذي آل إليه، فإن المضارع يعلن عن التحول المأمول ويمثل الحلم ويبشر بالغد الأفضل. وبما أن ضمير المتكلم يحيل على إبراهيم وضمير الغائب يحيل على السارد ويتبادل الفاعلان المواقع فيصير المتكلم ساردا والغائب الحاضر إبراهيم فإن الخطاب الشعري استنادا إلى الضميرين المتعاضدين يحمل الوظيفة التعبيرية الانفعالية والوظيفة المرجعية، إلا أنهما ليستا مهيمنتين بل مجرد جسر للوظيفة الجمالية الطاغية التي تحققها الصور الشعرية والتموجات الإيقاعية

الإيقاع

على مستوى الإيقاع استنجد الشاعر بتفعيلات الرجز كإطار موسيقي إلا أنه انزاح فيه كثيرا عن الصور الأصلية ليشاكل التدفق النغمي المناسب لتشكل الرؤيا في النص. وللتوضيح نورد الأسطر الشعرية الأولى مفاعلن مستفعلن مفاعلن مفاعلاتن مفاعلن مستفعلن مفاعلن مفاعلن فعل مفاعلن مفاعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن فعل.لقد اكتسبت القصيدة بنيتها الإيقاعية من تكرار صور (مستفعلن) في غير التزام بضوابط العروض و تكرار المقاطع وتكرر اللفظ (عرفت) والجملة ( لوكان لي أن ) وأصوات مثل الراء في الأسطر الشعرية الأولى فهي تحضر تقريبا في كل الكلمات الأولى ، واستثمار التوازي(الاستفهام + الفعل + الفاعل…) وعلامات الترقيم والبياض بما يخدم الموسيقى والتركيب والدلالة والقراءة والدفقات الشعورية في علاقتها بالوقفات الثلاثة وقد أحصينا نسبة تشغيل الفاصلة في النص فبلغت اربعا وعشرين مرة بينما النقطة لم تتجاوز عشر مرات. إن الفاصلة داخل النص تؤشر على أن البنية النظمية (التركيب النحوي) لم تكتمل بعد أو اكتملت غير أنها تشترك مع ما يعقبها في الحكم دلالة وتركيبا مما يؤمن الانسياب والاسترسال بين الأسطر الشعرية، كما تؤشر على التعارض بين مقتضيات العروض ومقتضيات التركيب والدلالة ، وتلك صفه من صفات اللغة الشعرية، إذ غالبا ما تتزامن الوقفة الوزنية مع البياض الدلالي أو الوقفة النظمية النسبية التي تؤشر عليها الفاصلة. وفي هذا المقام يحضر التقابل بين الوصل والفصل. أما النقطة والبياض فيحققان وظائف متنوعة بدء بالتأشير على تمام المعنى وإفادته إلى التأشير على نهاية المقاطع. وقد تضافرت علامتا الاستفهام والتعجب مع النقطة لأداء هذه الوظائف المتعددة. ومن المفيد أيضا، أن نشير الى أن النقطة غالبا ما تسم الأسطر الشعرية بالاتساق ويقصد به هنا اتحاد الوقفات.

إضافة إلى هذه المكونات هناك تداخل الخطابات في النص ولعل الخطاب القصصي حاضر في القصيدة بشكل بارز. ويتجسد في البناء الدرامي باعتباره جسما متكاملا في حد ذاته ،ويتشكل من عناصر متناسقة كل منها يقوم بدوره في مرحلة معينة(البداية /العقدة/النهاية) الأمر الذي يتيح النمو والحركة باتجاه المصير والمآل. والسارد والبطل المأساوي والحوار الداخلي والحوار الخارجي والسرد والوصف علامات دالة في النص.

تركيب وتقويم

نخلص من كل هذا إلى أن هذه القصيدة اغتنت بعوالم تخييلية بفعل محاورة النصوص الدينية والأسطورة والتراث الأدبي مما مكن من تفجير الأسئلة الوجودية. وأصبح المنسي يأخذ حضوره وراهينته من تداعيات المعنى المسكوب في إيحاء الإيقاع وشغب الصور واندلاق الدلالة مما عقد عملية ملاحقة تفاصيل الرؤيا في النص والتي يبدو أنها غير محدودة. وقد جسد الشاعر من خلال هذه القصيدة تصوره الحداثي للشعر المتجه نحو فلسفة الهدم والتمرد والانقلاب على الجاهز والثابث والمألوف وإعادة تركيب معطى جديد من المواد المهدومة والمهضومة بما يضمن الإبداع والتميز والقوة دون قطيعة مع الموروث الإنساني