شعر الوصف - تحليل نص 'وصف الربيع' لمحمود سامي البارودي

سياق النص

يندرج إنتاج النص في سياق الإعجاب بمفاتن الطبيعة التي تسحر النفوس وتبهر العقول وتحرك قرائح الشعراء، فيصورون عناصرها تصويرا يحاول القبض على أسرارها الجميلة ولحظاتها المذهلة خاصة في فصل الربيع. والبارودي لايخرج في وصفه للطبيعة عن الخط الفني للقصيدة العمودية مترسما خطا فحول الوصف في عصور النضج الشعري من الجاهلية إلى الفترة العباسية على مستوى التراكيب والأساليب والدلالة والصور والإيقاعات والرؤية الشعرية بما يكشف عن قدرة خلاقة وموهبة متأصلة في تطويع هذا الفن كما طوعه الأولون، وتأليف القول الشعري الوصفي بكل تلقائية تصدر عن طبع وسليقة وعمق تجربة وقوة انفعال وثراء معرفة وإدراك مما يعد إضافة نوعية إلى الثرات الشعري الأصيل من شاعر عربي مصري حديث له من شخصية المتنبي أكثر من شبه، وترك بصماته واضحة على أحمد شوقي وغيرهما ممن أصلوا الشعر العمودي الحديث.

ملاحظة النص

يصرح العنوان بالغرض الشعري الذي يندرج ضمنه النص، وهو وصف الطبيعة في إحدى لحظاتها الزاهية وفتراتها التي تصطبغ فيها كل العناصر بالحياة والحركة الجميلة والمظهر المثير، إنه فصل الربيع حيث تلتحم الأرض والسماء والنسمة والضياء وانفعالات الشاعر لتُعزف سمفونية شعرية خالدة تحاول الاقتراب من روعة المشهد عبر وصف ينصرف إلى الأجزاء الأكثر استبدادا بنفس الشاعر، واستثارة لإدراكه وتهييجا لمخيلته، وهو مانسلط عليه الضوء في هذا النص.

فهم النص

يتضمن النص جملة من المشاهد والمشاعر نجملها كالأتي:

  • تصوير الشاعر لحظة انبلاج الضوء ساعة الفجر وكأن ولادته فتاة رقيقة ترمي بخيوط النور في لحظة تنشغل فيها أفواه الزهر بحكاية أسرار الندى.
  • تشبيه الشاعر نسمة الصباح المشبعة بندى الزهر وعبير الشجر بفتاة* جميلة تحمل في أعطافها وأردانها أنفاس الخمائل تمشي بها على بساط ندي بعبق عطر.
  • رغبة الشاعر في اغتنام لحظة الصباح الباكر في فصل الربيع حيث تستيقظ الطبيعة من سباتها منتشية متناغمة العناصر في انسجام تام بين الأرض والجو والسحاب والغدران والمطر والسيول.
  • تمثيل الشاعر تماوج الأغصان بفعل الصبا بطيور ترفرف بأجنحة خضراء، والندى فوق شقائق النعمان بدموع على خدود حمراء أو فضة تسيل على ذهب تنعكس عليه أشعة الشمس الذهبية فيعكسها في منظر يشبه تطاير الشرر فوق الجمر المتقد.
  • تشبيه الشاعر، على سبيل الاستعارة، مرمى نظره بالمرعى تقتات منه العين جمالا وهطول المطر على الأرض بالوشي، وكأن السحابة الماطرة ترسل إبرها إلى الأرض فتطرز مروجها المرملة السهلة الغناء المصقولة بزهر يبدو فيها كالنجوم اللامعة في سماء خضراء تروق العين وتبهرها.
  • تشبيه الزهر نصف المفتوح في الصباح وفوقه كرات الندى المتجمدة بأصداف تبتسم وتتفتق مباسمها عن لآلئ ساطعة
  • تأثر الشاعر، والصبح لا يزال نائما في حضن أمه كناية عن البكور، بمنظر حمامات ترسل هديلا شجيا كأنه شعر البارودي المعبر عن مكنون قلب شفه الهوى والغرام.

تحليل النص

يوجه الشاعر في هذا النص خطابه إلى متلقي مفترض يدعوه إلى مشاركته تجربته الشعورية الوجدانية عبر الانخراط في رحلة الاستمتاع والانتشاء بسحر عناصر الطبيعة في فصل الربيع في ساعة تولد فيها الحياة من جديد وتتصل السماء بالأرض، فتختلط الأضواء بالأمطار والمروج بالسيول يغذي بعضهما البعض في عناق جميل. ومؤشرات توجيه الخطاب إلى هذا المتلقي واضحة في قوله: (فقم نغتنم…ـ ترى…)، والبارودي ليس أول من وجه الخطاب في شعره إلى المتلقي حقيقيا كان أومفترضا، بل سار على نهج قديم وتقليد معروف في القصيدة العمودية نجد صداه في قول امرئ القيس (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل…) وقوله: (خليلي مرا بي على أم جندب) وقول المعري: (صاح هذي قبورنا تملأ الأرض…) وهو استحضار يفتح أفق التواصل على مصراعيه في القصيدة الشعرية باعتباره وظيفة تنضاف إلى الوظائف الانفعالية والجمالية.

يحفل النص بالألفاظ الدالة على الطبيعة موزعة على حقلين دلاليين: حقل يرتبط بالأرض وآخر يتصل بالجو، ومن حقل الأول ألفاظ تدل على الزهر والندى والخمائل والشذى والغدران والسيول والأودية والثرى والأغصان والأصداف والمروج والحمامات والأوكار، ومن الثاني ألفاظ دالة على الضياء والنسمات والسحاب والمطر والأفق والشمس والنجوم، وبين الحقلين الدلاليين اندماج واحتواء تغديه انفعالات الشاعر وانطلاق أداته الواصفة تنسج تآلف العناصر وانسجامها واستلزام بعضها لبعض في تشكيل طبيعي خلاق مترع بالجمال والإبداع. وإذا أمعنا النظر في هذه الألفاظ وجدناها تستمد طاقتها الوصفية من معجم قديم بكل ما يختزنه من حمولات ورؤى وخصائص صوتية تجعل اللفظ في هذا النص الوصفي، شأنه شأن الألفاظ في القصائد العمودية، منتقى فصيحا راقيا مشحونا بدلالات تتناغم وسياق الوصف وإيقاعاته الجميلة ومستويات الانفعال المدهشة عاكسة لتمثلات قديمة تنبعث من الذاكرة الشعرية الرحبة بما فيها من ألفاظ وإشارات وصور وصياغات من مثل: ( بليلة مهوى الذيل – عاطرة النشرء هتان يسيل – أودية غزر – باسم الثغر – بين الأرض والجو نسبة – حمامان فياضان – الصباء جمان – تبرء أجرع مثر – جلاها الزهر – الأنجم الزهرء صحاف النورء الصبابة – ديمة – هتفن…)، مما يعني أن الشاعر وفيّ لخطه الشعري القائم على محاكاة النمادج الخالدة من الشعر العربي بما يؤصل رونق القصيدة، ويعيد إليها بهاءها المفقود في عصور الانحطاط والتقليد الرديء.

توسل الشاعر في بناء شبكاته الدلالية الجميلة والموحية بآليات بيانية أهمها الاستعارة القائمة على الموازة بين طرفي الصورة، موازاة تتقلص فيها المسافات والأبعاد، فيندمج عالما الطبيعة والإنسان بشكل يلبس فيه كل منهما لباس الآخر، فيفجران من الدلالات ما يختلط فيه الحس والشعور والجمال والرقة (نمت بأسرار الندى شفة الزهرء سارت بأنفاس الخمائل نسمة – زهرها باسم الثغرء يد الصباء غازلتها لمعة ذهبية …)، ومنها التشبيه المؤسس على المقابلة بين عوالم طبيعية وغير طبيعية تجبر المتلقي على مد الجسور بينها وركوب مطية التأويل ومغامرة البحث عن الانسجام بين ذراتها الدلالية المتناثرة وعلاقتها التي لاتخلو من تجديد وطرافة تحيل إلى تميز الشاعر وقدرته الخلاقة على إبداع صوره الخاصة المتجاوزة للصور القديمة، المترعة بالإيحاء بعوالم مادية جميلة ومثالية، وأخرى نفسية تعكس طبيعة الانفعال والتفاعل مع هذه العوالم وما تزخر به من إعجاب وافتتان وتأثر واستحضار لهموم القلب وانشغالات الوجدان (نسبة تشاكل ما بين السحائب والغدر – ماجت الأغصان كما رفرفت طير بأجنحة خضر – كأن الندى فوق الشقيق مدامع تجول بخد أو جمان على تبر – لمعة ذهبية رفّت كالشرار على الجمر – هتفن كأنما تعلمن ألحان الصبابة من شعري…).

نوع الشاعر الأزمنة في النص لتأمين حركية الوصف بما أتاح لصيغ الزمن الماضية أو الحاضرة أو المرتبطة بالطلب أن تعزف لحن وصفيا يتموج داخل أفق من الجمال ثابت في اللحظة الوصفية المرصودة التي تتحرك وتتجدد بنفس النسق وذات الدلالات، وفيها يحضر ضمير المؤنث المتصل حضورا مهيمنا في إيحاء ضمني بالجمع بين عناصر الطبيعة وعالم الانوثة بما فيه من سحر وجمال وفتنة.

كثف الشاعر موسيقى النص، شأنه في ذلك شأن فحول القصيدة العمودية، لزيادة تأثيرها وجمالها فبالإضافة إلى الموسيقى الداخلية المرتهنة إلى تكرار المواد الصوتية اللينة الموزعة توزيعا متساويا على أجزاء البيت الشعري والمتأرجحة بين خاصيتي الجهر والهمس أوالغنة والصفير أو الرخاوة والانفجار، مما يخلق في النص موسيقى الفرح والابتهاج والنشوة والاندهاش، بالإضافة إلى ذلك استثمر الشاعر تفاعيل الطويل بعروضه المقبوضة وضربه التام ليوفر لدفقاته الشعورية إمكانات الاسترسال والاستغراق الوصفي.

تركيب وتقويم

النص نمودج من شعر مدرسة البعث والإحياء غرضه وصف الطبيعة، وفيّ، كما تأكد لنا من التحليل، لمرتكزات القصيدة العمودية المعيارية من جهة، ولكنه من جهة أخرى يعكس خصوصية الشاعر في تأليف بعض المعاني، وبناء بعض الصور وتلوين الأساليب بطريقة طريفة ومجددة تدل على امتلاك لناصية اللغة، وتمكن من دروب التعبير واقتدار على استدعاء المخزون الشعري العريض وتوظيفه.