المباءة (عز الدين التازي) - قراءة تحليلية

تتبع الحدث (المتن الحكائي أو القصصي)

تصور الرواية مباءة الفضاء والأشخاص، وتركز على قاسم الورداني الذي اشتغل مدة سبع عشرة سنة مديرا للسجن المدني بفاس، بعد أن خاض حروبا في الهند الصينية دفاعا عن العلم الفرنسي وعالمه الإمبريالي. وقاسم معيل أسرة تتكون من زوجة اسمها رقية وابنة تسمى منيرة وولد اسمه منير. يسكن داخل السجن بجوار “بآبرهيم” والمقتصد الذي كان ينهش عظام المسجونين حيث يأخذ طعامهم ويدخله إلى منزله دون أن يتدخل المدير أو أن يقف في وجهه باعتباره رئيسه الأعلى . كره منير وظيفة أبيه لأنه كان ينظر إليه على أنه سجان الآدميين يصادر حقوقهم ويقوم بتعذيبهم دون رحمة أو رأفة. كما كان منير ينفر من الفضاء الموبوء المميت الذي كان يوجد فيه منزلهم وسط السجن باعتباره فضاء عدائيا يثير اشمئزاز الآخرين وامتعاضهم منه، وكانت علاقة منير بأبيه علاقة صراع وجدال وتناقض حول الكثير من القضايا أهمها: قضية النضال والسعي الجاد إلى تغيير الوطن الموبوء على جميع الأصعدة لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتوفير الأمن والرخاء والسعادة المطلوبة والدفاع عن حريات الإنسان وحقوقه الطبيعية والثقافية المشروعة التي أقرها الإسلام ونصت عليها مواثيق حقوق الإنسان الدولية والعالمية.

بيد أن أباه كان يعارضه في كثير من النقط ويغضب أشد الغضب عندما تثار المسائل السياسية ولاسيما مهنته التي كانت تزعج منير وتنغص عليه حياته. لذا كان منير يحاربه ويجادله ويهدده بترك المنزل والانضمام إلى الرفاق ومناضلي الكلية، ولم يصبح الأمر مأساة إلا عندما عاد منير بعد غيبة طويلة. رجع وجسمه منهوك، وجسده ملوث بتعذيب لايتصور. لقد عاقبوه وصادروا حريته وشوهوا جثته حتى أصبحت فخذاه لاتقدران على الحركة والمشي. في جسده حروق وتشوهات من شدة ألم الاستنطاق والتعذيب اللاإنساني. ولم يرض الأب بهذه الدراما الوحشية الفظيعة. ولم يفق إلا على مأساة أشد هولا، الطالب اليساري بالأمس يصبح أصوليا متطرفا يكفر أباه ويواجهه بسكين، يختطفه أمراء الجماعة ويعذبونه لرفضه تزويج أخته لزعيمهم فيعود إلى البيت شبح إنسان، واهي الجسم والعقل معا. ويذهب قاسم إلى الرباط ليحضر اجتماعا وهو يحمل بين جنبيه كل ذلك الألم. وهناك في الفندق أصابته لوثة جنونية وهذيان أفقد رشده وعقله. وخرج من الفندق هائما على وجهه، وأثر غياب قاسم على الأسرة، إذ أبعدت من بيتها داخل السجن، إلى دار قديمة حيث خال رقية زوجة قاسم، وانسلخ قاسم من هذا العالم الموبوء، وارتحل إلى الضريح حيث الزاوية لينضم إلى عالم الموتى والمجانين المقيدين بالسلاسل ينقش شواهد الشرفاء والراحلين إلى عالم الفناء والفضاء الأخروي.

وأصبح لقاسم عالم آخر عالم الروح والتصوف والأحوال، يعيش مع الحروف والأرقام والقطط والموتى يناجي الذات المعشوقة ، وفضاء الولاية المقدسة مترددا بين قيم الطهارة والدنس أو بين سمات العالم الموبوء وعالم الجذبة والأوراد وتراتيل الصوفية العارفين بالله. وهكذا يرحل قاسم في الأخير من عالم المادة إلى عالم الخلوة والحضرة الجنونية والمغيب الرباني. ويجتاح الوباء فاس فيصيب الناس كلهم بمن فيهم قيم الضريح التهامي المنافق الفاسق، إلا قاسم مول القطوط الذي يسترجع حريته وإنسانيته بعد تخلصه من مباءة الأوحال والأدران والأمراض المادية، وانغماسه في عالم البركة والولاية وفضاء الأرواح وعشق الحروف وبياض الرخام وصفاء الوجدان وطهارة الأعماق.

الحبكة

لاتعتمد المباءة، على حبكة تقليدية، فتطور الأحداث لايتم دائما انطلاقا من العلاقات السببية بين مختلف الوضعيات ومجموع التحولات، بل يتم عبرمجموعة من العوامل والآليات المتشابكة، يمكن رصد بعض منها كالآتي:

الترابط النطقي

حيث يمكن تتبع ثلاث وضعيات كبرى خاضعة لهذا الترابط:

  • وضعية المقبرة الناجمة عن لوثة جنون اعتزل إثرها قاسم بدون وعي منه عالم الناس ومنهم عائلته، والجنون ناجم عن تراكم أحداث مأساوية فاقت قدرة قاسم على التحمل، فذهب التفكيرالمضني فيها برشده. وهذه الوضعية هي وضعية تحول بدأ بها الكاتب سرده للأحداث مكسرا تسلسلها الزمني المنطقي، وتسبقهامنطقيا وضعية السجن.
  • وضعية السجن: سعيا من الكاتب إلى خرق التتابع المنطقي الكلاسيكي لشكل السرد، بدأ الرواية بوضعية التحول، ثم عاد إلى لحظة البداية المنطقية في الفصل الثاني حيث فضاء السجن ومهنة الأب سببان في معاناة منير الطالب الذي يبحث عن هوية فكرية داخل فضاء الجامعة، تلك المعاناة التي سببت لقاسم مأساته هو الأخر.
  • وضعية النهاية: حيث قاد التحول الأحداث إلى نهاية لاتخلو من درامية ومأساوية، إذ عاد قاسم إلى العائلة، لكن عن أية عودة نتحدث، لتبقى النهاية مفتوحة لمتخيل القارئ.

الحضور الفني

ويربط بين وضعيتين مختلفتين يدفع الأحداث داخلها إلى الأمام تارة وإلى الوراءأخرى، ويتعامل مع وضعية الأزمة ووضعية التحول تعاملا رمزيا متعاليا لغته الوشم أوالنحت والأشكال والرسوم والحروف والألوان، وموضوعه الطيور والثعابين والدينصورات، والكلمات والأرقام والفراغات……

النقاش الفلسفي والسياسي

شكل هذا النقاش رابطا أساسي بين الأحداث والأدوار التي تقوم بها الشخصيات، وكشف عن أنواع من الصراع بين المواقف ساهم في تحريك الحدث [النقاش بينهم وبين منير والتهامي والشرفاء والقطط،وبينه وبين ذاته واستحضاره لقيمة الأموات السياسية والاجتماعية والدينية والأخلاقية…..].

الحوار الثنائي والحوار الداخلي (مناجاة الذات)

سواء بين قاسم ورموز العالم الموبوء ( التهامي ـ الشرفاء ـ النساء …) أو بينه وبين القطط ، وهو حوار تفتقت فيه الكثير من المواقف ، وقاد إلى جملة من التحولات، كما أن الحوار الداخلي أسهم في هيام المخيلة وتشكيل أحداث غير واقعية ، لكنها مرتبطة على صعيد الموقف بأحداث يتم الإيهام بواقعيتها [ تخيل قاسم جنازته والقطط تشيعها و” با إبراهيم ” يدفنه…] – التأمل الشاعري: يستغرق فيه السارد في تصويرالأشياء حوله تصويرا مشبوبا بأوصاف إنسانية شفافة تنبئ عن موقف من الوجود والقيم والجمال (الرخام صعب، حساس ورقيق، لايحب الكذب والنفاق….قلبه أبيض، وظاهره أبيض..قلبه نابض بالحياة وشرايين دمه تنبض….).

الوصف

وخاصة وصف الفضاء الموبوء سواء تعلق الأمر بالسجن أو الضريح أو فاس أوالبلد الموبوء بكامله، ووصف فضاء التطهير كعالم الخلوة الروحية وعشق الحروف وبياض الرخام.

الذاكرة التاريخية والواقعية

حيث ربطت الأحداث المستقاة من الذاكرة بين الفضاأت والمواقف وأدوارالشخصيات (النضال والوطنية والخيانة – الفتوح وعجيسه وصراعها ـ التحول بعد الاستقلال وشكل السلطة – الممارسات داخل السجن ـ التيارات السياسية بين اليسار الراديكالي والأفغان المغاربة…)

قلق الكتابة والشخصية المركزية والفضاء المغلق والزمن الدائري

نص المباءة ، سواء من ناحية التجريب، أومن ناحية التشديد على تقنية الكتابة في نطاق ما تم التعبير عنه بـالرواية الجديدة أو اللارواية يعمد إلى تكسير خطية السرد، ويعتمد ما يمكن أن ندعوه دائرية السرد. ولذلك تبدأ الرواية بـالضريح وتنتهي بـالضريح، موازاة مع مفردة الحرف التي تستهل وتنتهي بها الرواية أيضا. بل إن مفردة الحروف تبدو في شكل نواة النص أو مركزه الدلالي ، وهي فكرة تقع في صميم الرواية الجديدة. مركز يبدو أشبه ما يكون بـالنقطة في الدائرة، ولذلك أمكننا أن نفهم انتشار هذه المفردة على مدار النص بأكمله، كما يعمد إلى فتح الحدث على معارف عديدة هي: التاريخ والثقافة الشعبية والأنثروبولوجيا والأسطورة؛ غير أن هذه المعارف تحضر باعتبارها فضاأت للتخييل وليس للتحقيق . ورغم دفق السرد واسترساله وانسيابيته، فإنه يمكن استخلاص الحكاية في نص المباءة، ثم إن هذه الحكاية تنطوي على بداية ونهاية مغلقة على شاكلة الرواية التقليدية.

يمكن تلخيص الحكاية الإطار، في نص المباءة، ودون أن نتغافل عن مساوئ التلخيص، في شخصية قاسم الورداني المحورية في النص. وقد كان هذا الأخير مديرا لسجن، غير أنه جن تحت تأثير تحولات أسرية ومجتمعية عنيفة ، مما جعله ينتهي إلى العيش مجنونا ومجذوبا في ذات الوقت داخل غرفة من قبر ونصف قبر مجاورة لغرف في ضريح يقصده الناس من البسطاء للتبرك والعلاج. وقد آثر أن يعيش وحيدا منعزلا ولا صديق له غير القطط أو شعب القطط كما كان ينعتها في مملكته مملكة الجنون. ولم يكن يتحرك إلا إلى مقبرة القبب وبدافع من عمله المتمثل في كتابة شواهد القبور. وقد كان يكره ما يعطى له ليكتبه وينقشه بـإزميله على الألواح البيضاء، بينما ينتشي انتشاء مطلقا بفعل التخطيط أوالكتابة ذاتها. من هنا منشأ حكاية البياض وقبل ذلك حكاية الحروف باعتبارها عوالم خلاص أو وطنا بديلا. الحروف التي يقول عنها السارد: ” يحفر حروفا على الرخام ـ الحروف تقترب وتبتعد ـ حرف يقترب من الآخر ـ حرف يدخل في آخر من خلف أو أمام حرف يميل وآخر يسيل ـ حرف أشمٌ يرفع هامته فوق كل الحروف ـ حرف يشتهي الحرف وحرف هو الاختراق الشبقي المحترق بلذّة ألمه الدامي” (ص 16 ).

ولعل أبرز ملمح في نص المباءة، بل وفي نصوص التازي عامة، هو ملمح المكان الذي يستأثر بباقي مكونات النص. والمكان بغير معناه الهندسي، وإنما بمعناه المبلور في الدراسات ذات الصلة بما يطلق عليه الجغرافيا الثقافية. وكما قيل فالرواية جغرافية في الأساس، إضافة إلى أن المكان يكشف عن تشكل المجتمع فضائيا. ويكتسب أهمية بالغة، بل يمكن اعتباره مصدر تشكل النص. والمكان يأخذ صفة مدينة تأخذ بدورها صفة شخصية محورية. وليس من الغريب أن يحفل نص المباءة بفضاء مدينة فاس التي لا تشبه باقي المدن المغربية. غير أن هذه الفاس، ومن حيث هي فاس التازي، قادت السارد إلى التشديد ــ في دنيا التخييل ــ على ثلاثة أمكنة فرعية كان قاسم يتحرك في إطارها، وهي: المقبرة (مقبرة القبب، وقد سلفت الإشارة إليها) والضريح (ضريح مولاي بو غالب) والسجن (سجن عين قادوس). والعلاقة بين هذه الأمكنة ليست علاقة حدود، وإنما هي علاقة تداخل أو علاقة وجود.

الرهان

الهدف (الرهان) من إظهار هذه الأحداث في الرواية هو إبراز الحالة المأساوية التي بلغها الواقع في مدينة فاس على الأصعدة جميعها: الأسرية والاجتماع والسياسة و النفسية. أما انتشار المرض فقد كان له دور تعميق هذا الواقع المأساوي لأن تفشيه في مدينة فاس جاء مكسوا بملمح ترميزي.

مغزى هذه الأحداث يبقى مرتبطا بالإمكانات التأويلية للمتلقين، لكن الغاية التي يمكن أن تفهم لدى تتبع وقائع الرواية هي الاحتجاج على هذا الواقع المأساي، والتحسر على القيم الإيجابية التي كانت فيه ولم يعد لها دور أساسي في الحاضر. والرواية بعد هذا تريد أن تبحث عن قيم بديلة ممكنة لتجاوز حالة الواقع المرسوم بكل مافيه من إحباطات وخيبات.

دلالات الحدث وأبعاده

أبعاد الحدث في النص متشابكة حيث تبدو فاس، مدينة ما بعد كولونيالية، مما يسمح بنوع من الحديث عن النص ما بعد الكولونيالي في رواية المباءة. ويتشكل هذا النص من خلال المكان ذاته ، وبدأ بفضاء المقبرة الملطخ بـموتى خانوا وطنهم فكانوا أعوانا للاستعمار ، مقابل موتى قتلوا برصاص الاستعمار الفرنسي. موتى عاشوا حياتهم متصوفة أو زنادقة… (ص19). وكأن محمد عز الدين التازي، بإشارته إلى هؤلاء الموتى من الخونة، يعيد إلى الأذهان تلك الفكرة التي تتحدث عن أولائك الموتى ممن يستحقون القتل. وكما يمكن أن نستخلص إحدى سمات الأدب ما بعد الكولنيالي، في نص المباءة، من شخوصها الهامشيين الذين يأويهم الضريح، وجميع هؤلاء ، وتبعا لتوصيف السارد ، من أرتال الفقراء والمخبولين والعرج والعميان والسكارى والقتلة العتاة وباعة السجائر المهربة… وجميعهم يدخلون ساحة الضريح، ليجلسوا في انتظار قصعات الكسكس. وكل ذلك موازاة مع حلول المساء حيث تكتظ ساحة الضريح بنساء منكودات، مطلقات أو رجالهن محكوم عليهم بالسجن، أو عجائز يشعرن بالضيم من أولادهن وزوجاتهن وأزواج بناتهن (ص 31) فإننا لا نتغافل عن كون قاسم بدوره يتحرك في الدائرة ذاتها حتى وإن كان يتفرد بـبركته بين هؤلاء المهمشين. ويمكن أن نؤشر على ما يعرف ، في نظرية خطاب ما بعد الكولونيالية ، بـالهجنة التي تعد ملمحا بارزا في آداب ما بعد الاستعمار، وبصددها نستحضرقول السارد عن مدينة فاس: عراة يدخلون المدينة من باب الفتوح، صخب سيارات النقل إلى الضواحي والمدن في محطة المسافرين. رواد سينما الأندلس مشدودون إلى ملصقات الأفلام الأمريكية والهندية، المتسولون وماسحو الأحذية وباعة الحلويات والأطعمة، شواؤون يشوون الأمعاء المحشوة وكفتة لا يدري أحد أهي من لحم حمار أم من لحم آخر… (ص26 ).

وفي السياق نفسه تحفل رواية المباءة بإشارات كثيرة إلى الاستعمار من مثل: أنا أتذكر أيام بوحمارة وأيام العز واللويز آمولاي عبد العزيز. ومولاي عبد الحفيظ قالوا هو الذي وقع مع النصارى عقد الحماية (ص26). وغير ذلك من الإشارات إلى المخزن وأيام السيبة… إلخ. ثم أن بطل الرواية قاسم الورداني بدوره ساهم في المقاومة، بل إنه قتل معمرا بمسدسه الذي كان دائما تحت جلبابه (ص85). يقول قاسم لابنه منير في لحظة اشتد فيها الحوار واتسم بصراع الأجيال: لقد قلنا رأينا في الاستعمار، وجاء جيل جديد ليقول رأيه في الاستقلال (ص 85). غير أن ما يلفت الانتباه أكثر هنا هو السجن الذي انتهى قاسم إلى إدارته، بل إنه لم يكن يتصور أن تكون هناك سجون في مغرب ما بعد الاستقلال. يقول: ولم أكن أعلم أن السجون بعد استقلال المغرب سوف تصبح لمعتقلي الرأي، من حزبيين معارضين للسلطة، ومن طلبة ومثقفين (ص 81). ومعنى ذلك أنه ثمة خيبة فيما يتصل بـالدولة الوطنية التي علق عليها أبناؤها من الوطنيين آمالا عريضة في فترة الاستعمار القاسية. وفي هذا الصدد يمكن التشديد على الإشارات المقتضبة إلى قاسم مع الزعيم المهدي بن بركة أثناء حدث طريق الوحدة التي سعى من خلالها هذا الأخير، في مقدم الاستقلال وعلى وجه التحديد في صيف عام 1957 ، ورغم تنكر التاريخ الرسمي ، إلى وصل أطراف المغرب اعتمادا على اثني عشر ألف شاب، مستلهما في ذلك تجارب بعض الدول الاشتراكية كالصين والاتحاد السوفياتي في توظيف طاقة الشباب من أجل تنفيذ مشاريع اقتصادية واجتماعية كبيرة. تقول ابنة قاسم منيرة عن الصورة: وصورة يظهر فيها الوالد عاري الصدر، يرتدي الشورط، وفي يده فاس، وهو يهم بان يحفر الأرض، كان قد قال لنا عنها إنها قد التقطت له عندما كان متطوعا في بناء طريق الوحدة (ص 110).

ويمكن إدراج إشارة السارد إلى المهدي بن بركة ضمن خطاب ما بعد الاستعمار؛ ذلك أن المهدي الذي كان وراء فكرة طريق الوحدة ، والذي كان واحدا من بين أهم ما ينعت في خطاب ما بعد الكولونيالية بـالمناهضين للاستعمار من الثوريين، سرعان ما سيصطدم بـالدولة الوطنية التي ستضطره إلى مغادرة البلاد نجاة بجسده وسعيا منه إلى مواصلة نشاطه الثقافي والسياسي في سياق أوسع . ومن ثم أن يكون لقاسم مع المهدي بن بركة صورة، أو بالأحرى أن يحرص السارد على استحضار هذه الصورة، معناه الدخول في نوع من التخييل المضاد لما هو مستقر على مستوى الأنساق الناظمة للمغرب السياسي.

على أنه سيكون من باب المتاهة القرائية أن يتم تلخيص المكان ، الذي يشكل نواة المراكز الدلالية ، في نص المباءة في خطاب ما بعد الاستعمار فقط. وفي هذا الصدد ثمة نوع مما يمكن نعته بـعنف المتحول على صعيد المجتمع، وهو عنف مشدود إلى السرد الذي تنتظم في إطاره الرواية. العنف الذي تترجمه، في النص، تيمات مثل الجنون والاغتيال والاعتقال والجنس (البائس) والأصولية الدينية. وكل ذلك في المنظور الذي يمكن، من خلاله، التشديد على ما ينعت في العلوم الاجتماعية بـالجدلية الاجتماعية المشوهة التي يترتب عنها، على التوالي، الشيء ونقيضه. وفي هذا الإطار تتوجب الإشارة إلى انقلاب الابن منير من الماركسية إلى التطرف الديني، الذي يبلغ ذروته حين يسعى الابن إلى قتل الأب قاسم، لا بدافع من الأوديب الفرويدي، وإنما بدافع من التطرف الذي يشرحه السارد على لسان الابنة منيرة حين تقول: جرحه الكبير وهو الذي لم يترك الصلاة ولم يتخل على شهادة أن لا اله إلا الله، محمد رسول الله، أن يأتي ولده منير ليكفره، ويقول له إن صلاته وتوحيده بالله نفاق وزيف، ثم يشهر السكين ليقتله، معتقدا انه يجاهد في كافر، (ص 109). هذا بعد أن كان منير، وفي لحظات الحماس الطلابي، ومعه منيرة والأم المتواطئة من بعيد، يرفض العيش في منزل داخل سجن يأوي زملاءه من الطلبة اليساريين. وفي ظل مثل هذا الوضع الضاغط ليس من الغريب في شيء أن يفقد قاسم عقله في أثناء تواجده بالرباط من أجل مهامه الإدارية. ويختار السارد لذلك شخصية (عيشة قنديشة الأسطورية) التي نفذت من تحت الباب وألقت بذلك العطر الذي جعل قاسما يخرج من الغرفة عاريا يجري في شوارع الرباط. ومن ثم سينتهي إلى العيش في غرفة في الضريح على نحو ما سلفت الإشارة إلى ذلك من قبل. غير أن إقامته في الضريح لا تنطوي البتة على أي نوع من المدلول الديني المحض، فهو لم يأت إلى العالم من فراغ، بل إنه أتى إلى العيش بين المقبرة والضريح، بعد محنة… (ص 55). ومن ثم ليس غريبا أن تكشف إقامته عن تداخل المقدس والمدنس في سياق اجتماعي أوسع يستوعب الديني. وإقامته في غرفة من قبر ونصف قبر أول ما يكشف عن المدنس. كما أن التهامي المسؤول عن الضريح يكشف، وبشكل أكثر حدة، عن المدنس. يقول السارد: كان التهامي يمنع قاسما من دخول المقام عندما يراه يهم بالدخول. يقول له أنت غير متوضئ ولا صلاة لك، والمقام طاهر. فكان قاسم يرد على التهامي بأنه نجس أبدا ومع ذلك يدخل المقام، ويحذره من أن يفضح أمام الناس ما يفعله بالنساء ليلا، عندما يأتي إلى الغرف ملفوفا بالبياض، موهما إياهن أنه الولي وقد نهض من مقامه وجاء إليهن. (ص 50).

وفي السياق نفسه إذا كان التهامي نموذجا لـالطمع والجشع والاستغلال، وغير ذلك من الأشكال التي تلطخ الأضرحة والمناسبات الدينية، فإن قاسما نموذج للمجذوب أو مُولْ لْبَرَكًة كما ذاع صيته، وخصوصا بين النساء من الزائرات للضريح طلبا لـالتبرك والعلاج. أجل إن بركته لا تفارق ما ينعت، في دراسات البركة والتصوف، بـالنمط النعيمي؛ غير أن هذه البركة لا تسير في اتجاه خدمة القدسي. فـطالبو البركة، أو بالأحرى بركته، هم من القطط التي يغدق عليها جميع الأموال التي يجمعها من نقش الشواهد. وكم من أبواب يفتحها تكاثر القطط كما قال فكتور هيجو. غير أن قطط قاسم لا تخلو من دلالات رمزية لافتة. وفي مقدم هذه الدلالات أنها تتسم بمبدأ النقاء أو الصفاء: صفاء أو نقاء الهوية، طالما أنها لم تختلط ــ وخصوصا داخل فضاء المقبرة ــ بـالجن أو الشياطين. إضافة إلى أنها تحمل أسماء دالة على جنسيات أو ثقافات مختلفة، موازاة مع دياناتها المختلفة إذ نجد فيها النصرانيات واليهوديات والمسلمات. إنها ملل ونحل أو شعب كما كان يقول عنها قاسم نفسه. ولعل في ذلك ما يشي بنوع من التسامح الذي أراد قاسم أن يشيعه من خلال عالم القطط وأن يرد به على ما كان قد لاقاه من قبل في محيطه العدائي اللاهب.

واللافت للنظر، وفي خطوة دالة على البركة المعكوسة، أن يحرص قاسم على اقتناء الكفتة والبوفتيك والهبرة لـشعب قططه بدلا من الرية أو الكرشة كما جرت العادة مع القطط المدجنة المحظوظة. يقول السارد: (قطع الجزار الهبر وقال: ” قدمه لقطك مشويا على نار الفحم”. فرد عليه قاسم: ” نصائحك وفرها لنفسك” (ص 40).

إن إصراره على أن يزود قططه اللحم نيئا لا يخلو من دلالات أنثروبولوجية أسطورية تعيد إلى الأذهان دراسة الأنثروبولوجي كلود ليفي ستراوس حول النيئ والمطهو ، فالنار تحيل إلى السياق الأسري والاجتماعي اللاهب الذي كان وراء جنون قاسم، ولذلك فهو يرفض هذه النار سواء كانت، وبلغة غاستون باشلار في كتابه النار، حلوة معتدلة بلسمية وطاهرة، أو عنيفة وعنيدة. وحتى إذا ما فكر قاسم في تلك النار غير المرئية أو الرحيمة فلن يحيد تفكيره عن دائرة الأنثروبولوجي الأسطوري حيث الضحية من القطط. ولذلك فقد فكر قاسم في ذبح القطط، ذبحها كلها من أجل أن يسلخها ويخيط من جلدها ووبرها لباسا يكون له كساء في ليالي المقبرة الباردة وغطاء في ليالي غرفة الضريح الباردة (ص 56 ) . وثمة مشهد آخر لا يحيد عن النيئ، ويتعلق بمشهد الدم الكامن في الدورات الدلالية للنص. ويرتبط الدم بالعيد الكبير الذي يشكل قدومه رعبا للقطط حيث تكون مجبرة على الرحيل من الضريح إلى مكان مجهول، وإلا طاردتها لعنة العيد على غرار ما حصل لأحد هذه القطط. ويتكرر مشهد الدم في لحظة الوباء الذي أصاب المدينة بأكملها حيث هرع الجميع إلى ذبح الأضحية التي سيتنافس عليها ألف ولي من أولياء الله ممن تحيط أضرحتهم بضريح مولاي إدريس. يقول السارد: مرة أخرى استعدت فاس لأن تجري الدماء في طرقاتها ودروبها… (ص 133). ولن يخلو المشهد من عودة للمدنس حيث بدا التهامي خادعا وهو يخطط لحصول الضريح على أكبر الذبائح، في منافسة محمومة مع أضرحة أخرى منها ضريح مولاي إدريس… غير أنه لا ينبغي حصر دلالات الحدث في الترميز الأسطوري والأنثروبولوجي في صلتهما بالذهني، فثمة مجال التاريخ الذي يمتاح منه نص المباءة. ولا يكمن التاريخ في الإشارات المتكررة إلى الكثير من الوقائع والأحداث التاريخية التي سلفت الإشارة إلى البعض منها، وإنما يكمن في تسمية المباءة ذاتها ، ففكرة المباءة تحيل إلى ما يعرف بتاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب، وخصوصا في القرن التاسع عشر ، وفي جميع الأحوال فإننا لسنا بصدد الحديث عن التاريخ، وإنما قصدنا إلى تناص نص المباءة مع التاريخ، حتى وإن كان هذا التناص لا يرقى إلى الاندغام في خرائطية الكتابة• هذا إضافة إلى أن التاريخ، وهو ما نلمسه في نص المباءة، ليس سوى مجال للتخييل ، وفي هذا الصدد أمكننا أن نفهم نجاة قاسم بمفرده من الجنون الذي أصاب المدينة بأكملها، ناهيك عن إمكانية النظر إلى هذا الأخير باعتباره مرآة لـذات المبدع المتشظية في دنيا الكتابة والإبداع.

القوى الفاعلة

عرف رولان بارت الشخصية الحكائية بأنها (نتاج عمل تأليفي)، وهذا يعني أن رسم صورتها الكاملة في النص لايتم إلا بطريقة تدريجية من بداية ظهورها إلى نهايته، وذلك حسب مقدار حضورها في العمل. لذا لايمكن تكوين فكرة واضحة عنها إلاعندما يطلع القراء على كل ما تتمظهر به من أقوال وأفعال، وكذلك ماتقوله عنها الشخصيات الأخرى، ومايقوله السارد. من هذا المنظور يمكن تحديد أهم القوى الفاعلة في النص على الشكل التالي:
 
قاسم الورداني

من الطبيعي أن نبدأ بالحديث عن الشخصية الرئيسية في الرواية باعتبارها أبرز من يمثل القوى الفاعلة في النص، وهي ممثلة كما أشرنا في قاسم الورداني. وتتحدد مركزيتها في كونها:

  • تتميز بحضور دائم في مجموع أقسام الرواية.
  • تنفرد بالاهتمام المركزي في قسمين من الرواية هما القسم الأول والقسم الثالث، ويشكلان أكثرمن مائة صفحة من إجمالي صفحات الرواية البالغ عددها 153 صفحة، وهذا يعني أنهما يمثلان ثلثي الرواية، مع العلم أن لشخصيته قاسم حضورا بارزا أيضا في القسم الثاني إلى جانب الشخصيات الأخرى.
  • يتداخل صوتها في كثير من مواقع الرواية مع صوت السارد، مما يدل على أن زاوية نظره تفرض انحيازا خفيا لمواقف وآراء هذه الشخصية في الرواية: “…وقاسم لايحب الأرقام التي بها يؤرخ للميلاد والوفاة سواء أكانت هجرية أم ميلادية فهو لايحبها، أنالا أحبها” (ص17). هذا المزح بين صوت السارد والصوت الشخصية الرئيسية مؤشر دال على التواطؤ الحاصل بينهما. واستعمال هذه التقنية كان ملحوظا في الروايات الررومانسية العربية. وهو تعبير في الوقت نفسه عن تداخل ” الرؤية من الخلف” مع ” الرؤية مع ” وخاصة في القسمين الأول والثالث المشار إليهما.

تتناوب شخصية قاسم مع سارد غير مشارك في الأحداث:

  • صوت السارد= (انتبه التهامي إلى أحدهم وهو ينادي على قاسم في هذا الصباح الباكر….).
  • صوت قاسم= (.. أنا الآن أجول في المقبرة.. فأين قبر الفتوح بن دوناس وهل جفت يده من دم أخيه عجيسة).

فهذه الخصائص كلها تعتبر مؤشرات واضحة على ميل الرواية نحوالرؤية المونولوجية التي يتماهى فيها السارد بالشخصية الرئيسة رغم محاولة تطعيم تلك الرؤية في القسم الثاني بالرؤية الحوارية.

أما أهم خصائص هذه الشخصية فهي:

  • غرابة الأطوار من جهة: فقد أريد لهذه الشخصية أن تكون غربية الأطوار: فلا هي بالسوية ولاهي ( بالمخبولة) بشكل تام. فالحالتان معا تتناوبان عليها:
  • (قاسم يتبعه شعب من القطط الجائعة وهو يشتري لها اللحم من الجزار ويطعمها).
  • (قاسم يسكن منعزلا بضريح سيدي بوغالب بجوار القبور حيث تجتمع غرابة الحياة ووحشة المكان. وهنا تلتقي الرواية دون شك مع الصورة المضببة الموحشة المرسومة على غلافها).
  • قاسم يرسم على جسده أصناف الصور: (رسم على صدره وذراعيه قططا وأفاع وجماجم وتفاحات حمراء وأسماكا وديناصورات وقبورا وأبوابا للمدن وسجونا ووجوها بشرية لها وجوه البوم ثم أخذ يجول في وسط الساحة مختالا وكأنه يعض جسده أمام النساء.)
  • (قاسم الذي راود ته “عيشة قنديشة” عن نفسه في أحد فنادق مدينة الرباط فهرب عاريا إلى الشارع المدينة).
  • (قاسم يرتدي بذلة من أوراق الجرائد القديمة مطلية بالزعفران ويتجه نحو المدينة تتبعه قطط).
  • الاتزان من جهة أخرى: قاسم النقاش على الرخام. يطوع الحرف ويرسم المعاني والدلالات وينجز المستحيل: (هذه حروفي وأنا أكونها بالإزميل.. لاتنس “يقصد الحرف” أن تحرك الساكن وتفتح المغلق وتبدأ مما لم يبدأ وتقول مالم يقل وتروض لحظة الدهشة..).
  • (قاسم العاقل الذي يتخذ فقط مظهر المجذوب) و(يكون قادرا على أن يسخر من المقدم المحتال).

الخاصية الأساسية التي تميز قاسم هي إذن الإنشطار الذاتي وقد صاحبتها هذه الخاصية في مجموع الرواية وانعكست على مواقفها وأحوالها. و اللافت للنظرأنها كانت واعية بانقسامها: (أهذا أنا ؟ كل هذا في دواخلي وأنا لا أعرف ؟ أين يرقد كل هؤلاء الأشخاص في أعماقي؟ الآن أكتشف السفاح وغدا سوف أكتشف أشخاصا آخرين في شخصي (…..) ولكن أحي أن أجد قاسما الطاهر والآخر العاشق، وقاسما الوطني المناضل ضد الاستعمار وقاسما صديق الطيور والحيوان والرسوم والألوان).

منير الورداني

هو الإبن الوحيد لقاسم الورداني، تتميز شخصية منير بأنها متقلبة القناعات تفتقد إلى كثير من التماسك الذاتي، فقد انضم إلى تنظيم طلابي ماركسي وكان متعاطفا مع طلبة هذا التنظيم الذين كاناوا رهن الاعتقال بالسجن الذي يديره أبوه، كما كان يستقبلهم أحيانا في بيت أبيه سرا.

اختطف منير وعذب فبدا أنه فقد قسطا من كرامته وثقته بنفسه، لذا قطع صلته على الفور بالتنظيم الطلابي السابق وانضم إلى تنظيم أصولي يعد نقيضا تاما له. ويتجلى ضعف هذه الشخصية أيضا في محاولة منير قتل أبيه لأسباب غير بارزة في النص، وحين أحبط الوالد محاولته عجزعن النظر في وجه وأجهش بالبكاء.

يتطور تدهور هذه الشخصية السلبية بسرعة كبيرة في الرواية عندما تختفي مرة أخرى، ولم يمض أكثر من شهر واحد على انتمائها الجديد. هكذا نراها تعود إلى المنزل مرة أخرى في حالة أسوأ مما سبق، فقد تعرضت بوظائفها للتعذيب من قبل أعضاء التنظيم إلى أن فقدت عقلها وأصبحت عاجزة عن القيام بوظائفها الطبيعية: (.. وهكذا، فقد بقي منير، رقية تلبسه الملابس وأنا أغسل جسده في الحمام ومنيرة تطعمه بيدها في فمه وهو يجلس معنا على مائدة الطعام ناظرا نظرته تلك نحو العلاء ووجهه مائل إلى اليسار باسما للفراغ.) وتبقى حالة منير هكذا إلى نهاية الرواية.

منيرة الورداني

هي البنت الوحيدة لقاسم الورداني. ورغم أنها من الشخصيات الأساسية في الرواية إلا أنها أقل أهمية من أالشخصيتين السابقتين. ووجودها في النص له دور في إلقاء مزيد من الضوء على شخصية الأب والإبن وبعض التنظيمات السياسية والطلابية:

  • كما أنها تعرضت هي الأخرى للتحرش من شخص أصولي يدعى حفصا يريدها محجبة وزوجة له تحت التهديد.
  • مثلت صوتا إيديولوجيا في الرواية عندما تحدثت عن ذكرياتها وإعجابها بشخصية المهدي بن بركة وتياره الثوري.

إن شخصية منيرة، على خلاف منير، تمثل الانسان الواقعي الذي يسعى إلى البحث عن العمل والاستقرار بعيدا عن عالم السياسة، لكنها أنيطت، مع ذلك من قبل الروائي، بدور بلورة موقف الرواية الإديولوجي ذي التوجه اليساري الديمقراطي دون أن تكون منخرطة بالفعل.

رقية زوجة قاسم الورداني

دور هذه الشخصية باهت في النص، ومع ذلك فهي تمثل الأمومة النموذجية المميزة بميزتين: (التضحية ورعاية الأبناء، – الإخلاص التام للزوج ).

هناك شخصيات أخرى ثانوية ولكنها تؤدي أدوارا معينة في النص، تذكر منها:

  • إبراهيم عون السجن الوفي الحريص على تنفيذ تعليمات رئيسه قاسم الورداني.
  • التهامي مقدم الضريح الذي يمثل نموذج الإنسان النفعي، فهو يلجأ إلى الحيل جميعها، ويدعى السحر ومعرفة الغيب ليستفيد من الذبائح، ويحتال على زوار الضريح من البوادي لكي يستولي على أراضيهم الفلاحية.

البنية العاملية

تنتظم الشخصيات الأساسية المذكورة جميعها، بالاضافة إلى جميع القوى والعوامل المتدخلة في بناء الحدث الروائي، في بنية عاملية واحدة داخل النص الروائي تتحدد فيها خصوصية دور كل فاعل في الصراع الدينامي للحكي. ويمكن توزيع الأدوار كلها في بنية عاملية تتكون،كما هو معروف عند غريماس، من ستة عوامل رئيسة:

  • العامل الذات : و يمثله في المقام الأول قاسم الورداني، وتنتمي إلى عامل الذات هذا كل الشخصيات التي تتعاطف مع قاسم، سواء حين كان في حالته السوية أم بعد حصول الانقسام في شخصيته. ونشير على الخصوص إلى شخصية منيرة وإلى زوجة رقية.
  • العامل الموضوع : لم يظهر العامل الموضوع في الرواية في صورة شخصية بل هو قيمة سياسية واجتماعية وتربوية مفتقدة بالنسبة للشخصيات السابقة الممثلة للعامل الذات، نشير بالتحديد إلى رغبة قاسم في أن يكون ناجحا في تربية أبنائه مستقرا في أسرته ووظيفته، راضيا عن نفسه، وقادرا على الاستمرار بتلك القيم السياسية والنضالية التي كان يؤمن بها في الماضي. ولاشك أن منيرة والزوجة كانتا تقاسمانه الرغبة في هذه الموضوعات ذات القيمة، وهي في الواقع تمثل عاملا واحدا وهو العامل الموضوع.
  • العامل المساعد : لاشيء يمتلكه قاسم لمساعدته في محنته سوى إزميله وهلوساته التي تجعله يرسم عوالم بديلة تعوض حالة الحرمان من الاتصال بالموضوع ذي القيمة. وضعف العامل المساعد في النص الروائي يقوي الطابع المأساوي في النص.
  • العامل المعيق: هناك عناصر كثيرة مثلت دور العامل المعيق في رواية المباءة، منها اختلاف القيم الاجتماعية والسياسية، واضمحلال القيم الإجابية القديمة، وعصيان منير لقاسم الورداني، واختلال التوازن النفسي والعقلي لشخصية قاسم بسبب (عيشة قنديشة)، ووقوع منيرة ومنير في شرك الابتزاز والتعنيف من قبل بعض الأحزاب السياسية أو السلطة، إلى غير ذلك من عوامل الإحباط والخيبة التي عانى منها الأبطال.
  • العامل المرسل : يمثل العامل المرسل عادة رغبة تتجاوز رغبة العامل الذات، وغالبا لانجد حضورا مباشرا للعامل المرسل في النصوص السردية، وإنما يقتضي التحليل اكتشاف هذا العامل بطريقة افتراضية، كأن نقول على سبيل المثال ما الدافع الذي جعل قاسم يعيش هذه الحالة من التوتر والانقسام والمعاناة والبحث عن الحلول المستحيلة لواقع متعفن ؟ إن دافعا أسمى هوالذي دفعه إلى ذلك، وهو قيم العدالة والإصلاح الاجتماعي أي تلك المبادئ التي ضاعت منه ولم يعثر عليها في الواقع المرسوم. إنها ما تزال تعمل في الخفاء وتدفعه إلى تحدي انقسامه الذاتي وضياعه وضياع أسرته.
  • العامل المرسل إليه : إنه أيضا افتراضي في النص قد يكون ممثلا بالسكان الحاليين لمدينة فاس، المفترض أن يباركوا كل من يتحدث عن حالة وهموم هذه المدينة التي هي في حاجة إلى إعادة ترميم لعلاقاتها الأسرية والاجتماعية، ورسم معالم بنيتها الاجتماعية والفكرية والأخلاقية. أو قد يكون المجتمع المغربي إذا ما نظرنا إلى أن استخدام مدينة فاس إنما هو رمز لكل المدن المغربية ولم لانتوسع فنقول إنها رمز لكل المدن المغربية.

البعد الاجتماعي

الفساد الاجتماعي العام

ترتبط معالجة هذا الموضوع الأساس بالشخصية المركزية في الرواية وهي شخصية قاسم الورداني. إذ يبدو أن خروجه عن أطواره العادية كان بسب مشاكل أسرية واجتماعية وسياسية متعددة، منها أنه:

  • فقد دوره القديم يوم كان مقاوما، ولم يعد بين يديه سوى الذكريات.
  • أما دوره الجديد باعتباره مديرا للسجن، فقد بداله متناقضا مع قيم النضال التي دافع عنها في الماضي، ولذلك كان موزعا بين تمثيل السلطة والتعاطف مع السجناء من الطلبة.
  • كانت خيبته تامة في أن تكون له أسرة متماسكة وناجحة. فها هو يرى ابنه منيرا يختطف ويعذب مرتين، وهو عاجزعن فعل شيء إلى أن أصبح معوقا عاجزا حتى عن القيام بحاجاته الطبيعية. وها هويرى ابنته منيرة مهددة من قبل شخص قالت إنه من (الأصوليين) يريد إجبارها على الزواج منه لكن أباها لم يكن قادرا على حمايتها أيضا.
  • كان قاسم الورداني أيضا يقف، حتى وهو منعزل في المقبرة، على سلوك الاستغلال الاجتماعي الذي كان مقدم الضريح يمارسه بالنصب والاحتيال، فيسلب الفلاحين أراضيهم ويستولي على معظم الذبائح التي تقدم للضريح.

الانحراف السياسي

ويتجلى في:

  • عجز السلطة عن حماية الأفراد الذين يتعرضون للاختطاف والتعذيب.
  • انحراف بعض التنظيمات السياسية الجديدة، مع التركيز على التنظيم (الأصولي) دون غيره من التنظيمات الأخرى. والجدير بالذكر هنا أن صورة الأصولية المقدمة في الرواية هي الصورة السلبية لاغير.

لكل هذا تحاول الرواية أن تقدم البديل السياسي النموذجي الذي كان ينبغي أن يستمر، ويمثل هذا بعدا إيديولوجيا مباشرا في النص رغم أن التصريح به جاء على لسان شخصية منيرة التي كانت، كما أشرنا، تقوم في الغالب بدور تجسيد موقف الشخصية الرئيسية (قاسم الورداني). فها هي تتذكر الماضي وتقلب الصور التذكارية وتقول: (…وصورة أخرى يظهر فيها الوالد مع المهدي بن بركة الشهيد الذي طالما أحببناه وعانقنا (اختياره الثوري)) إن منيرة، إذن، تمثل الدفاع عن القناعات السياسية التي كان أبوها قاسم يمثلها في الماضي؛ لذا نرى أن المباءة رواية ذات أطروحة سياسية، تبلور اختيارها الإيديولوجي من خلال الكلام المباشر للشخصيات وخاصة شخصية منيرة وقاسم الورداني، إنها رواية منحازة بشكل ظاهر إلى التنظيمات الديمقراطية واليسارية ومناهضة، دون تميز، للأ صولية. وهذا يدفعنا إلى الحديث عن نوعية الرؤية السرد ية في هذا العمل الروائي لإلقاء مزيد من الضوء على هذا الجانب.

الأبعاد النفسية

تتصل الأبعاد النفسية جميعها في رواية المباءة بالأبعاد الاجتماعية التي أشرنا إليها سابقا، علما بأن المظاهر النفسية المرصودة جاءت متصلة بشخصتي قاسم الروداني وابنه منير، فقد أشرنا سابقا إلى أن أهم خاصية نفسية كلنت تميز شخصية قاسم هي الانقسام الذاتي، فهو يتقمص شخصية السفاح والشخص الرحيم في الوقت نفسه: (الآن أصير سفاحا. عرفت السفاح في. هو أراد أن يذبح القطط وأنا منعته من ذلك. سفاح مجنون هذا الذي استيقظ في أعماقك ياقاسم. اقتل. اقتل السفاح فيك، اقتله قبل أن يسيطرعليك فتصبح سفاحا بالفعل).

وهذا ليس إلا تمثيلا لما جري في الواقع، لكنه هنا يجري على مسرح الذات الفردية المهمومة بمآسي هذا الواقع. فالسفاحون يقتلون الشعب وهو يفكرفي قتل قططه لكن شقه الطيب يجعله يطعمها لحما يبتاعه من الجزار.

كما أن الكاتب وظف مايشبه الخلل العقلي أو(الدروشة) من أجل دعم مظاهر ذلك الانقسام الذي كان قاسم يعاني منه. ثم إن لجوء الرواية أيضا إلى الموروث الشعبي الخرافي المتمثل في عيشة قنديشة كان هادفا إلى تحويل شخصية قاسم إلى حالة مأساوية أو دراما اجتماعية شعيبة.

أما بخصوص الإضطرابات النفسية التي كان منير يعاني منها، فهي ناتجة عن فشله في الاندماج مع التنظيمات الطلابية ومع الأسرة. وهنا يتم اللجوء من جديد إلى الاختلال العقلي، لكن بمعناه الحقيقي، للتعبيرعن هذه الحالة المأساوية في أجلى مظاهرها السلبية.
لذا نرى أن البعد النفسي في الرواية قد تم توظيفه غالبا، من أجل إبرازالمآسي الاجتماعية والسياسية في بلد يسيطر فيه الظلم والتعذيب والانحراف السياسي والإحباط ، ومن أجل إظهار هذه المآسي السلبية على ذوات هذه الشخصيات وقواها العقلية.

البنية الفنية

الرؤية السردية

في القسم الثاني تبدو الرواية وكأنها تتجاوز الأشكال التقليدية وهي كما هو معلوم:

  • الرؤية من خلف: وتكون فيها معرفة السارد بأحداث الرواية وشخصياتها تامة، فالسارد قادرعلى الإخبارعن أسرار البيوت وخبايا النفوس
  • الرؤية مع (أو الرؤية المصاحبة): ومعرفة السارد فيها تكون جزئية لكنها مهيمنة. وهو يكون واحدا من شخصيات النص.
  • الرؤية من خارج: يتميز فيها السارد بحياد شبه تام، لأنه يكتفي بسرد ما يراه من حركات وسلوك الشخصيات وينقل مايسمعه منها، لكنه لايعلم شيئا عما تفكر فيه. كما أنه لايتدخل برأيه للتأثير على القراء.
  • الرؤية الحوارية: وفيها تترك للشخصيات حرية التناوب على أداء مهمة السرد، بمعنى أن كل شخصية تقدم نفس القصة أوجانبا منها لكن من منظورها الخاص. وتكون الرواية، إذا طبقت هذه الصيغة على مجموع النص، رواية حوارية. لكن رواية المباءة لم توظف الرؤية الحوارية إلاجزئيا أي في القسم الثاني فقط، فقد جاءت مهمة السرد فيه موزعة على مجموع الشخصيات الأساسية في الرواية.

وحيث أن الرواية بدأت في جزئها الأول بالرؤية المنولوجية (الرؤية مع) أي باستخدام ضمير المتكلم وهو صوت قاسم وانتهت بالابتداء أيضا بنفس الصوت في جزئها الثالث، فإن الهيمنة تبقى دائما للرؤية المصاحبة وهي نفسها ما أسميناه بالرؤية المنولوجية.

إن تجارب الكتابة الروائية والقصصية السابقة عبر العالم دائما تؤكد أن (الرؤية مع) أو يسمى أيضا (الرؤية المصاحبة) إذا ظهرت في بداية الرواية خاصة، فإن جميع الرؤى المغايرة التي تستخدم بعدها تكون شكلية ولاتؤثر كثيراعلى نوعية زاوية النظر البدئية.

وسنجد أيضا أن تحويل السرد في القسم الأول أحيانا إلى الرؤية من خلف والقسم الثالث غالبا، لم يكن له أثركبيرعلى الرؤية التي انطلقت بها الرواية. ويقررعلماء السرد أن هذا التغييرالمفاجئ لزاوية الرؤية يكون له أثرسيئ على صدقية المحكي ودرجة اقتناع القراء بوقائع النص المسرود ، ويخصون بالذكر الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب لا العكس، أما الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطب فهو مألوف ومستساع في نمادج الكتابة السردية الغربية والعربية على السواء. ونجد نموذجه الأمثل في الأيام لطه حسين.

لكل هذا نستخلص أن الرؤية السردية في رواية المباءة رغم تعدد أشكالها ومظاهرها في النص ، فهي ترتد إلى الرؤية المونولوجية المصاحبة التي يضطلع بها سارد مشارك في الأحداث يرى العالم من زاوية نظره الخاصة ، ويجعل بعض الشخصيات تسانده في تصوره، من أجل توجيه القراء نحو قناعات محددة سلفا. ثم إن حوارية القسم الثاني من الرواية لاتعدو أن تكون مسألة شكلية للتخفيف من رتابة السرد الذاتي.

الحوار

تستخدم رواية المباءة نوعين من الحوار:

الحوار الداخلي أو يسمى عادة بالمونولوج

ويقوم أساسا بدور تشخيص الحالة النفسية للشخصية الرئيسة (قاسم الورداني). وقد رأينا كيف كانت تعيش حالة انشطار ذاتي بسبب المشاكل التي كانت تعانيها في مرحلة سابقة من حياتها حيث كان قاسم حارسا للسجن. على أن الحوارالذاتي يعكس جانبا آخرمن شخصية قاسم المبدع الذي ينقش الحرف بإزميله، وينطق الكلمات، ويحاول أن يكشف ما وراء الحروف.ويأتي هذا النمط من الحوار ممتزجا باللغة الشعرية لمزيد من التعبير عن الحالة الوجدانية المتألقة بهوس الكتابة على الحجر: (….ثم حفرت بالإزميل التاء والحاء.. وجاء نهوض الألف لينهضني من الغفوة، فقد حلمت فيما يشبه اليقظة بوعل نافرفي البراري قلت هي الحروف أصوات ومعان… ص 132).

الحوار العادي بين الشخصيات

ومهمته الأساسية هي الإيهام بواقعية الأحداث الروائية، لأنه يكسر سلطة السارد عندما يكون آخذا بزمام تلخيص الوقائع والأحداث بنفسه، وينقل الحكي إلى نطاق التشخيص المباشرلحركة الشخوص وكلامهم وتصادمهم المباشر. لذا يساهم الحوار في تأزيم المواقف الدرامية الناتجة عن الصراع بين شخصيات الرواية. وأكثر ما يتجلى هذا الدور في الحوار الذي جرى متوترا بين قاسم وابنه منير في مرحلة السجن:

  • يابابا أعرف أنك وطني ودافعت عن الاستقلال، ولكن وأنت تقبل معارضة الناس للسلطة، وهي تأتي بهم إلى السجن من أجل أنهم معارضون، فيجب أن تستقيل من منصبك.
  • أنا أستقيل؟ وبماذا سوف أعيلكم؟
  • تبحث عن عمل آخر. لاأحتمل أن يقولوا بابا مديرسجن.

البنية الزمانية

لاتتبع الرواية في السرد نسق الترتيب الزمني الطبيعي للأحداث كما يفترض أنها وقعت بالفعل، لذا يمكن أن نميز فيها بين زمنين:

  • زمن السرد وترتيب الأحداث فيه كالآتي: القسم الثالث القسم الثاني القسم الأول (المقبرة والضريح السجن الضريح والمقبرة).
  • زمن القصة وترتيبها الطبيعي كالآتي: القسم الثالث القسم الأول القسم الثاني (المقبرة والضريح الضريح والمقبرة السجن).

تقوم عملية تكسير الترتيب الزمني الطبيعي عادة على مستوى زمن السرد بإبعاد الحكي عن الرتابة المألوفة في نقل الأخبار أو رواية الوقائع. لذا يعتبرهذا التكسير مظهرا من مظاهرجمالية الكتابة الروائية والسردية على العموم، كما يكون له دور في الإحساس بالتشويق لدى القارئ، بما يتضمنه من مفارقة زمنية بين ترتيب القصة الطبيعي وطريقة ترتيب أحداثها عندما تحكى.

الاسترجاع والاستباق

هناك بعض الجسور الاستذكارية القليلة تربط الفصل الأول بالفصل الثاني، وهي عبارة عن إشارات استرجاعية داخلية يتذكر من خلالها قاسم الورداني أسرته: (كانت لي عائلة وضاعت، امرأة وولدان: ولد وبنت. كانت لي دار وضاعت….). وقد وصفنا الاسترجاع هنا بأنه داخلي لأنه يحيلنا في واقع اللأمر على ما هومفصل في القسم الثاني من الرواية نفسها. وإذا ما راعينا الترتيب الزمني الطبيعي فإن الأحداث المروية في هذا القسم تمثل الماضي، وأحداث القسم الأول تمثل مرحلة زمنية لاحقة. ومن ناحية ثانية، فابتداء الرواية بأحداث تتجاوز الماضي الماثل في القسم الثاني يعد إجراء زمنيا استباقيا.
ولا نجد في الفصل الثالث إلا إشارة واحدة إلى الماضي المحكي في القسم الثاني، يتذكر فيها قاسم الورداني عون السجن الوفي إبراهيم، ويتمنى أن يكون قد نجا من الوباء. وهذه الإشارة تنتمي أيضا إلى نمط الاسترجاع الداخلي.

الحذف

لجأت الرواية إلى تقنية الحذف: أي عدم الاشارة إلى أحداث نعرف ضمنيا أنها وقعت بالضرورة في فترة زمنية محددة، لكن الرواية سكتت عنها لعدم الحاجة الفنية والمدلولية الماسة لذكرها. ومثال ذلك مايتعلق بالكيفية التي عاد بها قاسم من ا