عين الفرس (الميلودي شغموم) - مكونات القصة

الأحداث

تبدأ الرواية بفضح اللعبة الروائية وتحديد زمان الحكي وفضائه. إنه فضاء فانطاستيكي 2081 بإحدى الإمارات الكئيبة المتشرذمة في الوطن العربي. وسيحكي السارد للقارىء أحداثا غريبة تعبر عن أحوال العمران والاجتماع على غرار ابن خلدون صاحب نظرية العمران. والراوي الذي يتولى مهمة السرد والحكي هو الشيخ المثقف العارف محمد بن شهرزاد الأعور جليس الأمراء والملوك ورجال السلطة.

هذا، ويطلب منه الأميرال أبو السعد بنسعيد أن يسرد له قصة وإلا تعرض للعقاب والمساءلة. وعلى الرغم من التبريرات التي قدمها السارد كالعجز والشيخوخة والوهن والنسيان وعدم التذكر فإن كبير المؤنسين ألح عليه أن ينفذ الأمر بدون تردد في مجلس الأميروإلا سيكون الموت حليفه على غرار شهرزاد مع شهريار. وأمام هذا الضغط الشديد من الأمير وكبير المؤنسين، اختار محمد بن شهرزاد الأعور أن يحكي قصة الرجل الطيب والولد الضال أي قصة حميد ولد العوجة الذي دفع الطاهر بومعزة وزوجته الجائعين بسبب الجفاف والفقر إلى الهلاك في البحر بعد أن أغراهما بوجود المشوي والبسطيلة في قاع البحر ووجود كنوز وخيرات أخرى كما تدل على ذلك الأشعة النورانية الغريبة على ذلك. ولكن السارد لم يكن متيقنا من مصدر هذه الأخبار العجيبة بل أخذها اعتمادا على مصادر مشكوكة فيها قوامها: اللايقين والتردد وعدم التأكد و انعدام عدالة الضبط: محمد النفال، المهدي السلوقي، الصياد مبارك بوركبة، حميد ولد العوجة…

وقد سبب الولد الضال في نزول الكثير من الشبان وأهل قرية الفرس إلى البحر بحثا عن لذات البحر وطعامه الشهي الذهبي حتى إن القرية فقدت جل أبنائها بسبب هذه الأسطورة الملعونة.

بيد أن السلطة لم تكتف بهذه الحكاية باعتبارها متنا خياليا بل استدعى الأمير السارد محمد بن شهرزاد للتحقيق معه واستنطاقه في قضية عين الفرس وموقعها وأحداثها. لكن السارد لم يجد جوابا مقنعا لهذا الاسم وحيثيات الحكاية؛ مما جعل الأمير يغضب عليه غضبا شديدا ويطلب من رجاله أن ينفذوا في حقه العقاب والتنكيل والنفي:” أمرنا، نحن الأمير وارث حظه أبا السعد بنسعيد، بما يلي:

  • أولا، عزل عين الفرس عن بقية مدن وأنحاء الإمارة إلى أن تطهر.
  • ثانيا، تكميم فم حاكينا الأسبق، محمد بن شهرزاد الأعور، ونفيه إلى عين الفرس.
  • ثالثا، يقضي محمد بن شهرزاد الأعور، في عين الفرس مدة تسعين يوما مكمما معلقا السم في عنقه، ثم يحمل إلينا، بعد انقضاء هذا الأجل، ليتجرع السم في حضرتنا.
  • رابعا، يمنع حضور الحاكين في مجلسنا ابتداء من هذا اليوم.”

وهكذا كان موقف السلطة مع المثقف الواعي موقفا سيئا يعتمد على الطرد والإذلال والقهر ومحاولة إسكاته بأية وسيلة لأنه يزعج السلطة ويثير الشغب بوعيه وعلمه. وبعد مرحلة الحكي في القصر، سينتقل السارد بنا إلى مرحلة النفي إلى مدينة شاطئية بيضاء وهي مدينة عين الفرس ليجد نفسه مغتربا مشردا بدون أهل ولا مأوى بفعل تهديدات السلطة لأهل هذه المدينة:” فصارت عوامل المنع أربعة: ذلك الأمر بالنفي، والكمامة، والأنبوب، وقارورة السم التي لا ترى تحت الجبة، ناهيك عن تذكر المآسي!”.

ولكن شعب هذه القرية الكبرى أظهر للسارد كثيرا من العطف والحب والحنان والتضامن مادام وقف في وجه السلطة وحاول أن يكشف خبايا سلطة القهر والجبر بعد أن سخرالناس ا منه في بداية الأمر لأنه كان بوق السلطان وأداة للتسلية والترفيه.

وقرر السارد أثناء وجوده بالمنفى بعين الفرس أن يتوصل إلى الحقيقة عن طريق الممارسة والتجريب والمشاركة الفعلية للناس ومعايشتهم في الواقع. ومن ثم بدأ السارد في طرح أسئلة وجودية وفلسفية في مجال المعرفة والفهم وآلياتهما على غرار قصة حي بن يقظان قصد التوصل إلى الحقيقة واليقين. وهذا ما جعل رجال السلطة يستدعونه لاستنطاقه والتحقيق معه في قضية المختفين وأسباب نزولهم إلى البحر؛ لكن السارد دائما يظهر جهله وعدم معرفته بالأمر، ويعدهم بأنه سيبقى بعيدا عن مشاكل القرية ومآسيها.

وتحتفل قرية عين الفرس كل ربيع بتقديم القرابين إلى البحر لاستعطاف البحر لإعادة الغائبين إلى أزواجهم وخطيباتهم مما دفع البنت العجيبة أن تطلب من السارد أن يساعدها في إرجاع خطيبها حميد ولو كلفها ذلك أن تتزوج مع الجن من أجل عشيقها. ولقد استغرب السارد من سلوك هذه البنت الأسطوري الذي ينم على الجهل والثقة العمياء في المقدسات وقرابين اللاشعور الجمعي لدى الناس.

وفي الأخير يكون السارد قد استكمل فترة النفي” تسعين يوما” وأن أجله قد حان؛ ولكن الأخبار التي وصلته تنبىء بانقلاب على النظام القائم من قبل الأميرين: أبي المجد وأبي العز: ” أطاح الأمير صانع حظه أبو المجد بنسعيد، بمساعدة الأمير سعيد حظه أبي العز بنسعيد، بنظام الطاغية، وارث حظه أبي سعيد بنسعيد، في إطار استكمال مسلسل التحرر الوطني. واستكمالا للمسلسل ذاته تم اقتسام الإمارة بين أبي المجد وأبي العز. أما عين الفرس فقد أصبحت عاصمة لإمارة أبي المجد في إطار تقريب الإدارة من المواطنين، ذلك الإطار الذي نتمنى أن تخضع له كل المدن في المستقبل القريب!”.

وعليه، فلقد أصبحت عين الفرس إمارة جديدة تابعة لحكم متسلطن متجبر آخر مما جعل السارد حزينا يحس بالنفي مرة أخرى.

الشخصيات

لقد استعمل الكاتب شخصيات غريبة تحمل دلالاتها في طياتها عبر استنطاق أوصافها التي تتسم غالبا بالمفارقة والسخرية والتهكم والإحالة التناصية مثل:محمد بن شهرزاد الأعور الذي يشير إلى شخصيات ألف ليلة وليلة، كما يحمل في طياته تضادا مفارقا بين المثقف والأعور. ومن هذا الصنف نجد الطاهر المعزة دلالة على استسلامه وحميد ولد العوجة إشارة إلى ضلاله وانحرافه، وصالح الرعدة والصياد مبارك بوركبة ومحمد النفال والمهدي السلوقي والأميرال أبو السعد بنسعيد وأبو المجد بنسعيد وأبو العز بنسعيد… كل هذه الأسماء مقترنة بأوصاف ساخرة قائمة على التهكم والباروديا. وهذا التوظيف لهذه الشخصيات بهذا الشكل الساخر يؤكد حداثة الرواية وبعدها التجريبي. و” تتوغل النسبية في بناء الشخصيات حتى نصبح أمام ما يمكن أن يعرف بالشخصية- اللغز التي على القارىء أن يعيد بناءها انطلاقا من شظاياها المتناثرة؛ وذك كله ناتج عن الطريقة التي تقدم بها هذه الشخصيات من زوايا مختلفة، ووجهات نظر متباينة” .

الفضاء الروائي

يتميز الفضاء الروائي في هذا النص بأنه فضاء فانطاستيكي وعجائبي وأسطوري، إذ الأحداث تجري في زمن مستقبلي وهو2081، أما المكان فيتمثل في” واحدة من هذه الإمارات الصغيرة الكثيرة التي تشبه رقعة الشطرنج، منظورا إليها من الطائرة، وفي هذه الإمارة وقعت هذه الحكاية”(9) . وعلى الرغم من هذا المكان غير المحدد بدقة ، هناك مكان آخر يتسم باللغز والسرية والغرابة الأسطورية وهو عين الفرس. ويمكن كذلك تحديد مكانين عامين داخل الرواية: القصر المقترن بالأميرالات والسلطة، والمنفى الذي يرتبط بالتشرد والاغتراب الذاتي والمكاني.

المكون الخطابي

الوصف

يعد الوصف من أهم تقنيات الرواية في التحبيك والتأطير والتشخيص. وقد كان الكاتب موجزا في وصف الشخصيات إذ اعتمد في ذلك على الأوصاف والأسماء والأعلام الدالة على السخرية والمفارقة؛ ولكنه حاول أن يرسم لوحات وصفية للمكان أكثر تصويرا من الشخصيات على غرار الرواية الجديدة التي تلتجىء إلى الإيجاز والتكثيف في الوصف على عكس الروايات الكلاسيكية الواقعية التي كانت تميل إلى الاستقصاء والتفصيل والإسهاب لإظهار الواقعية والمحاكاة الموهمة بالصدق والحقيقة. يقول السارد واصفا عين الفرس باعتبارها مدينة شاطئية عازفا على إيقاع التزيين وتقديم الأحداث:” « عين الفرس” مدينة شاطئية صغيرة مرتفعة قليلا عن سطح الماء، في شكل هضبة تناثرت البيوت البيضاء الناصعة على جهتها المطلة على البحر، بحيث تبدو للناظر إليها من جهة الشاطىء وكأنها تتدلى، مثل باقات من الورد الأبيض، من عنان السماء. ولأن السماء تختلط بالبحر، بالنسبة للناظر إليها من إحدى الهضاب الأقل الملتصقة بها، فإن المدينة تظهر آنئذ وكأنها البياض الذي يربط بين عمق البحر وارتفاع السماء، كما لو كانت جبل ثلج عظيما يشكل سلما يصل بين ما تحت وما فوق وما حول…” (10).

فالكاتب- إذا- ركز على وصف المكان أكثر من وصف الشخوص والأشياء والوسائل.

الرؤية السردية

وظف الكاتب عدة رواة وسراد مثل السارد الأصلي ألا وهو محمد النفال والسارد العارض وهو المهدي السلوقي والسارد الفعلي وهو محمد بن شهرزاد الأعور. وهناك سراد عرضيون ينقل عنهم السارد الفعلي الخبر ولكن عن طريق الإسناد والرواية المعنعنة على غرار الحديث النبوي. وهذا التعدد في السراد يجعل النص الروائي مشتتا ونسبيا ومتعددا في منظوراته وزوايا النظر مما يجعل النص يتسم بالنسبية والدينامية والبوليفونية المتعددة الأصوات. وهذا التعدد على مستوى السراد يصاحبه تعدد على مستوى الضمائر والرؤى السردية: فهناك الرؤية المصاحبة والرؤية ذات التبئير الصفري… وهذا يدخل النص ضمن النصوص الروائية الحديثة التي تجمع بين التأصيل والتجريب. فالتأصيل يكمن في استخدام المنظور السردي العربي القديم أي طريقة ألف ليلة وليلة القائمة على التضمين وتوليد الحكايات المتناسلة من حكاية الأم: تمطيطا واستطرادا. كما أن السارد محمد بن شهرزاد الأعور يشبه شهرزاد مع شهريار لوجود الفضاء الليلي والمجون وقهر السلطة وفضاء القصر والتوقف مع الفجر ناهيك عن مبدإ: احك وإلا قتلتك: ” كانت الحكاية قد انتهت قبيل الفجر في ما يشبه النشوة والحسرة في نفس الوقت، أمر الأميرال إحدى مغنياته بأن تختم الحفل بأحلى ما لديها لكي لا تبقى إلا النشوة زادا لمواجهة النهار. غنت المغنية فأطربت وأسالت غزير اللعاب والعرق. كذلك فعلت راقصة والعازفون. ونودي لصلاة الفجر فاغتسلنا بسرعة وتخشعنا في رهبة ثم تفرقنا في اتجاهات أسرتنا لندخل- كالعادة- ظلمات الليل في النهار…” .

كما يستعمل السارد الحلقة وفنون القص الشعبي لإثارة فضول المسرود له أو المتلقي. وكل هذا من مقومات السرد العربي القديم الذي نجده عند ابن المقفع والحريري وبديع الزمان الهمذاني.أما في القسم الثاني من الرواية فيلتمس الكاتب السرد التجريبي الغربي قصد خلق مواءمة بين الأصالة والمعاصرة.

بنية الزمن السردي

ترتكز بنية الزمن السردي في الرواية على المستقبل 2081 على غرار روايات الخيال العلمي” جورج أرويل وجول فيرن وعزيز الحبابي”، ولكن هذا المستقبل يتسم بالغرابة والتعجيب الفانطاستيكي والأسطرة الغريبة. ويتسم المنطق الزمني بالخلخلة السببية والمنطقية. ويلاحظ القارىء نسقا متقطعا في البنية الزمنية إذ يتداخل الماضي والحاضر والمستقبل في إيقاع فانطاستيكي قائم على زمن القصر وزمن النفي وزمن الانقلاب.

الأسلوب الروائي

يعتمد الكاتب في بناء روايته على السرد ولاسيما في القسم الأول وعلى الحوار والوصف في القسم الثاني. ويستعمل الكاتب الحوار أثناء استنطاق الشخصيات ومحاسبة السارد محمد شهرزاد الأعور من قبل كبير المؤنسين أو التحقيق معه من طرف رجال الشرطة” رجال الدرك”، أو دخول السارد نفسه في حوار ومناظرة مع الرواة أو الشخصيات الشاهدة أو البنت العجيبة. ويرتكز الكاتب أيضا على الحوار الذاتي والمناجاة واستخدام الأسلوب غير المباشر الحر أثناء التذويت الذاتي والمساءلة الصوفية والوجودية والفلسفية.
كما يستعمل الكاتب الأسلوب الشذري الذي يعتمد مقاطع معنونة بحروف أبجدية وطرائق السرد العربي القديم كأسلوب التضمين السردي وحكي الحلقة والاستطراد البياني الذي نجده عند الجاحظ واستخدام الكتابة السردية عند ألف ليلة وليلة علاوة على الأسلوب الحديثي والإسنادي في نقل الأخبار. كما وظف الكاتب أساليب المفارقة والمحاكاة الساخرة والتهجين والباروديا. ويلتجىء الكاتب إلى الأسلوب الفانطاستيكي أثناء الاعتماد على جدلية الواقع واللاواقع والحقيقة والخيال واللجوء إلى أسلوب الأحلام والتذكر والخيال والرؤيا.

السياق الروائي

السياق الاجتماعي والسياسي

تحمل الرواية في طياتها أبعادا سياسية واجتماعية كثيرة، إذ تشير الرواية إلى ظاهرة الاستبداد والتسلط والقهر التي انتشرت وستنتشر في الوطن العربي ،ناهيك عن تشرذم الأوطان إلى إمارات ودويلات صغيرة في المستقبل يحكمها كل من انقلب على الحكام الورثة، وهذا يعني غياب الديموقراطية الذي سيمتد إلى أمد طويل. كما يبين مدى تذليل الأمراء والحكام ورجال السلطة للمثقفين وتكميم أفواههم بالنفي والتعذيب والتنكيل الجسدي والمعنوي. كما تشير الرواية إلى الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. وترصد الرواية عدة ظواهر سلبية في المجتمع العربي مثل التبعية واستغلال ثروات البلاد من قبل الأجانب والجفاف والفقر والإيمان بالأسطورة والخرافة وانتشار الأمية بين الناس والهجرة ناهيك عن كثرة الانقلابات السياسية وصراع الناس حول السلطة وتناحرهم حولها.
وهكذا ينقل لنا الكاتب مجتمعا فانطاستيكيا غريبا في أعرافه ومقاييسه متخلفا ومختلا خاضعا لقانون اللامنطق واللايقين والجهل.

السياق النفسي

تكشف الرواية عدة نفسيات شخوصية متناقضة مثل: نفسية المثقف الممزق الذي يحس بالذل والاغتراب الذاتي والمكاني والإخفاق وخيبة الأمل في السلطة بعد أن حاول أن يتصالح معها. أما نفسية الحاكم فتتسم بالغدر والخوف والتقلب والصراع الذاتي والتوجس من الآخرين، واستعمال العنف والقهر للبحث عن الاستقرار النفسي والأمان الوجودي. وإذا انتقلنا إلى كبير المؤنسين فنفسيته قائمة على النفاق والزيف والاستهتار وخدمة القهر والجبروت ولو على حساب الإنسانية والآخرين. أما الشخصيات المرصودة في الرواية فهي شخصيات بسيطة مسالمة تتسم نفسياتها بالحزن والقلق واليأس والمعاناة من شدة الجفاف والفقر مما جعلها الواقع الموبوء تلتجىء إلى القرابين والأساطير للخروج من مآزق الحياة ومشاكلها.

خاتمة

نستنتج مما سلف ذكره أن رواية عين الفرس لميلودي شغموم نص فانطاستيكي وأسطوري يدين الأنظمة المطلقة والعقلية الغريبة واللامنطق في الوطن العربي وتمزق الأمة إلى دويلات وإمارات متناحرة بالإضافة إلى الاستلاب والتبعية والتخلف. كما أن الرواية تجمع بين الحداثة التأصيلية والنسق التجريبي الغربي.