النص الحواري - تحليل نص 'الشجرة الخضراء' لزكريا تامر

سياق النص

القصة في عالم زكريا تامر ليست معقدة، ولا تحتاج لرؤية ناقد يشرح غموضها أويبشر برسائلها المرموزة الشفافة، إنها قصة أقرب ما تكون من روح الانسان ومعاناته، ولزكريا تامر فيها قدرة خلاقة في اللعب على أوتار الرمزية الشفافة، تلك الرمزية العميقة التي تقرأها في قصصه فتشعر كأنك ملكت الحقيقة أو اقتربت منها، غير أن شفافيته الرمزية سرعان ما تخرجك من عالم الحلم إلى عالم يثير فيك الغضب والكراهية تجاه كل القساة والظلمة والمستبدين. إنك مع موضوعات زكرياء تامر تشعر برؤية غريبة، فيها طرفة الإبداع وقوة الانفعال وتوتر اللغة وأسطرة الواقع في حكايات هي انعكاس لتجارب وخبرات، وكتابات مغايرة للصيغة التقليدية في السرد العربي تخلط بين الواقع والخيال خلطا تغيب عنه الحبكة والعقدة والحل.

وزكريا تامر من ألمع رواد القصة العربية، نشأ فقيرا، وغادر الدراسة مبكرا سنة 1944، واشتغل حدادا، غير أن ذلك لم يمنعه من إشباع نهمه للقراءة، والانقياد لهوسه بالكتابة، فألف قصصا بوأته مكانا رفيعا بين المبدعين الكبار، من أشهر مجموعاته القصصية “صهيل الجواد الأبيض” “ربيع الرماد” “الرعد” ” النمور في اليوم العاشر” و”دمشق الحرائق” التي منها هذا النص.

ملاحظة النص

العنوان مركب وصفي مبتدأ لخبر محذوف، ينفتح على أفق تاويلي شاسع تصبح فيه الشجرة معادلا موضوعيا للحياة والحلم والخصوبة والطهارة والثبات والتجذر والانتشار والحرية والعطاء، وتدل فيه الخضرة على كل ما يلتبس بايحاأت الشجرة من يفاعة وسلم وجمال ودفء وأنس وأمان. هكذا يصطرخ التركيب الوصفي بكل ما يصنع عالم الحرية والإبداع والخلق والجمال والأحلام وغيرها من القيم التي يتوق إليها الانسان عامة، وتعمل الأنظمة العربية في واقع مترد على قتلها واستبدالها بقيم القسوة والظلم واحتقار الحياة وقتل كل ما هو جميل في الإنسان وإشاعة كل قبيح فيه وحوله. هذه الإيحاأت تتأكد في بداية النص ونهايته من خلال المفارقة العجيبة بين دلالتي الصخرة في البداية والنهاية، فهي أولا مبعث للحياة وتفجير للأمل والحلم، وهي أخيرا محضن للموت ورمز للتلاشي والاضمحلال يعلن عن رؤية للحياة تصبح فيها الأرض والجسد الإنساني امتدادين لبعضهما البعض، معرضين للاغتصاب من الجلادين، وهذا وضع واقعي يبدو مؤلما وحزينا؛ ولكن تامر يحوله بدأ من إيحاأت العنوان والرمز إلى تماه وحلول وفناء، حيث يفنى الجسد في الأرض بدماءه، وتحتوي الأرض الجسد المغتصب، وكلاهما يشكل علامة فارقة في الوقوف ضد أشكال القمع والقهر.

فهم النص

تبدأ القصة ببكاء الطفلة بسبب ضرب أمها لها، وسبب ضرب أمها لها أنها كانت تبكي، وسبب بكائها أن أمها لم تشأ أن تشتري لها ثوبا أحمر؛ لأن شراء الخبز أولى وأهم. إن بداية القصة تعلن عن عالم زكريا تامر المصور للواقع المظلم الذي يملؤه اغتصاب الإنسان وانتهاك جسده بالعنف القسوة، وقتل أحلامه بالقمع والكبت والحرمان.

يخرج طفل صغير أسود الشعر من صخرة تفتتت فانبثق منها كانبثاق الحياة، فتكف الطفلة عن البكاء، ويدعوها الطفل المتولد من الأرض إلى اللعب فتستجيب، ويصنعان عوالم البراءة والحلم والطفولة المرحة المشاكسة، يتصوران الحياة لعبا وحكايات، ويختاران شجرة خضراء منطلقا لأحلامهما الجميلة رغم ما تحمله هذه العوالم الحالمة من تناقضات ومفارقات وإيحاأت رمزية يحضر فيها الواقع بوجهين القبيح والجميل، الوديع والقاسي (اللص والشرطي، والملكة والجيوش، الشحاذ والغنية، والعفو والفتل، والمستشفى والموت والقبر، والطبيعة بعوالمها المتعددة، وضمنها وردة بيضاء لها دلالة خاصة).

في نهاية الحكاية أجهضت أحلام رندا وطلال؛ لأنه يستحيل أن يتعايش الذين يحلمون بالسلام والحرية مع الذين يدمرون كل جميل وإنساني، خاصة إذا كان الوجه القبيح في الواقع يمتلك وسائل التدمير وأدوات القمع والانتهاك وسلطة القتل بدم بارد، بينما لا يملك رموز الجمال والسلام غير القدرة على الحلم. هكذا يرتعب طلال ورندا من رؤية منظر الدم والرصاص المنطلق دفعة واحدة من بنادق الجنود صوب رجل اعزل مدمي مقيد إلى الشجرة الخضراء، فتلوذ رندا بطلال باكية مرتجفة، فيضمها إليه، فيتحولان إلى صخرة إيذانا بانتشار القسوة والموت في حركة دائرية لولبية ما أن يشع فيها قبس من الحياة يضئ برهة حتى يخبو وتمتصه الأرض التي تظل وحدها صامدة في وجه القبح تحكي أسرارها للأجيال المقبلة.

تحليل النص

الحوار في النص اكتشاف جماعي لحقيقة تشغل بال الطرفين المتحاورين، وتؤسس تاريخهم ومصيرهم المشترك، ومشاركة مفتوحة على أفق غير محدود في إنتاج الدلالات وصياغة القيم وتشكيل التصورات. ويقوم الحوار في هذا النص على نوع من المفارقة تنتجها جملة من العناصر اللغوية، والذهنية المفهومية، والمرجعية المسندة إلى المكان والزمان، والسردية المتولدة عن بنية الشخصية بما تحمله من مكونات وتناقضات، وما يصدرعنها من سلوك. وكل واحد من هذه العناصر المشكلة للمفارقة في الحوار يعد حافزا من حوافز السرد، وأهمها الفضاء والشخصية والحدث. وبخصوص العنصر الذهني المفهومي يتضح أن الحوار في النص اعتمد على مزج المنطقي وباللامنطقي، الواقعي بالخيالي مزجا جعل بنية الشخصية متوترة بسبب دورانها بين الأسطوري والعياني، ولعل اللحظة التي تتوسط هذين البعدين المتفارقين هي الأكثر حضورا، والأقدر على تأمين وصول الرسالة واضحة إلى المتلقي. فبين الخروج الأحادي من الصخرة، والالتحام الثنائي بالصخرة بما يشبه الفناء والحلول تتداعى المعاني الواشمة للواقع وشما مزدوج الإحالات، على القبح تارة، وعلى الحلم أخرى، ومن ثم يمكن القول إن زكريا تامر استطاع أن يؤسطر الوقائع، ويؤلف بين العالمين المتنافرين تأليفا سلسا يصبح معه الحوار في النص هادفا يستجيب لتوثر الانسان بين العياني والمفارق، وتعكس فيه رندا الإنسان الحالم المعرض لكل أشكال الانتهاك النفسي والجسدي، ويؤدي فيه طلال دور المتأقلم الباحث عن فجوة للحياة في الرداءة، عن بقايا أمل وشبه حلم لا يقوى عن الاستمرار، فجوة لا تلبث أن تنسد فيلتحق التعايش بعالم السكون والجمود والموت.

لغة النص مفعمة بالحدة والتوثر، تتراوح بين الخبر والإنشاء في الحوار، أما في المقاطع السردية القصيرة فخبرية تستخدم جمل مقتضبة كثيفة. وهذه اللغة تنقل للمتلقي أنماط القهر والاضطهاد، وما يفارقها من أجزاء الحلم المشكل لمخيلة اللعب الذهني، المعيد لصياغة واقع مختلف يبحث عن أفق لدحر العنف والبؤس والحرمان، فتصبح رندا التي تبكي عدم حصولها على ثوب أحمر ملكة، وفتاة غنية، ووردة بيضاء. كما تعكس هذه اللغة نفسية الأبطال المقهورين والممزقين أمام المجتمع والذات والوجود في عالم قائم على القتل والجوع والكبت (الخبز أهم من الثوب الاحمرء فباتا مخلوقا واحدا يرتجف راغبا في الفرار).

تميز زكريا تامر في هذا النص الحواري بقدرته على استثمار المعجم العربي الشفاف الأكثر تغلغلا في لحظات الحكي وتأثيرا في نفسية المتلقي، كما تميزت هذه القدرة بالبراعة والانسيابية في تشكيل الصور التعبيرية والرمزية المثيرة؛ مما يجعل القارئ يحس بتنقله بين عوالم الأساطير والرموز بنوع من الألفة والتفاعل، وكأنها صور تنتمي إلى عالم اليومي المألوف، صور يضمحل الزمن داخلها، فيتسع أو يتقلص فيما بشبه زمنا هلاميا بدون قسمات، يبدأ بالبكاء وينتهي بالبكاء، ويتلون البكاء ثارة بالعنف والحرمان وأخرى بالخوف والارتجاف.

اتسمت لغة النص أيضا بالانفعالية في تجسيد مواقف معينة إزاء واقع موسوم بالرداءة والاضطهاد، وهكذا ينطبع الحوار بتلوين أسلوبي مثير يحضر فيه أسلوب الأمر والاستفهام والنفي بدلالاته المتعالية الإلزامية، ويحضر فيه الخبر بدلالاته الوثوقية الإيقانية (انها تطير – انه يطير بمحرك – أنت ابله – أنا الآن ملكة – أنت شحاذ – اهجم بجيشك – اعلم أيها الشحاذ الطماع – لا أريد أن أموت – ماذا ستفعلين لو كنت وردة…)، كما ينطبع بلغة شعرية تمزج حالات الشعور وتنوعاته الرمزية والحدسية والتصويرية الإيحائية التي تجعل القصة القصيرة التي بين أيدينا وسطا بين القصة والشعرعبر توليد جمل شعرية ذات كثافة عالية وخصوبة بيانية تخلط بين الفكرة والإحساس، وتستند إلى التكرار، وتوظف الكلمات توظيفا جديدا.

يقوم السرد في نص زكريا تامر على الموضوعية التي تقتضي أن يكون الراوي مطلعا على كل شئ، حتى على الأفكار السرية لشخصيات سرده، وأن نرى المكان والزمان والشخصية بعينه هو عندما ينصهرالذاتي بالموضوعي لينتج عنهما سرد تم تطويعه للدلالة على موقف من عالم حقيقي، ولكنه عالم قائم على العقلاني واللاعقلاني، نراه في اليقظة والحلم، ونحسه بالشعور واللاشعور، ونتلمسه في الواقع والمتخيل.

تركيب مفاهيمي

كان للأرض والحب والخوف والعلاقة الوجودية بين الرجل والمرأة نصيب كبير من الحدث في هذا النص الحواري، بل ربما شكلت سياقه العام، ورندا وطلال والجنود والجوع والحرمان والرعب علامات تصنع المفارقة والتوثر في تحققات تلك التيمات في هذا النص، فتصبح سوريا / الارض (الشجرة الخضراء) والشعب / الجسد معرضين لكل أشكال الاستبداد والقتل. وهكذا يصبح قارئ النص محاصرا كالقلم في المبراة، كقطار قديم متآكل يحمل صفيره المبحوح كل رغابات المتلقي ونزوات الشباب وأحلام الاطفال. وتنحدر الحكاية إلى اعماق واقعنا النفسي بكل جوعه إلى الطمأنينة المادية والروحية لتعبر عن تعبتا وفرارنا إلى الحلم اليقظان والحلم المخدر تحت سياط الحاجة اللاهية إلى الخبزوالحب. إن زكريا تامر هو الروائي الوحيد الذي ينقد واقعنا بقسوة دون أن يتحول نقده إلى خطابات وتقارير.