مفهوم الحداثة - التمارين

إن المكان الذي ظهرت فيه الحداثة هو ذاته المكان الذي ظهرت فيه المشاريع الكبرى، والمكان الذي ظهرت فيه المشاريع الكبرى يشمل المدن التي تضخمت في أواخر القرن التاسع عشر. إن العالم ريف وأوربا مدينته. فلا عجب إذا كانت سباقة إلى الحداثة.

تلكم هي المدن التي ظهرت فيها الحداثة. المدن التي اكتظت بالناس والمكتبات والمقاهي والنشرات والبيانات والمناقشات واللغات المتعددة والمعارض من كل حدب وصوب، والمسارح والصحف والمجلات والكتب ودور النشر والمطابع، مثلما اكتظت بالأفكار والنظريات والمذاهب والأساليب الأدبية: فإلى جانب كل أسلوب قد تجد مقابله الضدي، أو على الأقل مقابله المختلف عنه. ولهذا نجرؤ على القول إنه توجد "حداثة أدبية" ولا يوجد "نص حديث" لأن الحداثة فعل شمولي متناقض متباين متصارع متعدد...يضاف إلى ذلك أن الحداثة فعل تجاوزي دائما، لا يثبت عند مستوى معين. إنها نوع من الجنون المتمرد، الجنون الأبدي.

لاشك أن الثورة الصناعية التي ظهرت في أواسط القرن الثامن عشر، واستمرت إلى عام 1830 تقريبا، أسهمت إسهاما كبيرا في الاكتظاظ السكاني، لكن الاكتظاظ السكاني لا يشكل وحده "حداثة" المدينة. كانت روما قديما تقارب المليون نسمة، ومع ذلك ليس لها صفة الحداثة. ولكن يمكن القول إن الثورة الصناعية هيأت المهاد لقيام المدن الحديثة.

إن الحداثة بالنسبة إلى المدينة تعني انتزاع قدرة الفرد...إن المدينة، مهما كانت واسعة كبيرة مكتظة، لا يمكن أن نسميها "حديثة" إذا كان الفرد قادرا على إشعال المصباح للاستنارة، وتجهيز الغذاء والماء بنفسه. أما عندما تصبح الأمور خارج قدرته، أي بمقدور شركة الكهرباء أن تتركه من دون إنارة، وشركة المياه تقطع عنه لسبب أو لآخر التيار المائي، ويصبح غذاؤه معلبا. عندما تنفصل قدرته عن إرادته، وتصبح مرتبطة بإرادة الآخرين، وقتها نكون أمام مدينة "حديثة" حقا.

حنا عبود، الحداثة عبر التاريخ
منشورات اتحاد الكتاب العرب 1989، ص. 272-269