التشبيه التمثيلي

لِنَسْتَوْضِحَ هَذَا النَّوعَ مِنَ التَشْبيهِ نَتَأمَّلُ مَعَاً بتمهُّلٍ قولَ اللهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.

نتأملُ فِي الآيةِ الكريمةِ، فنَجِدُ أنَّ هناكَ تشبِيهَاً، ولكنْ أينَ وجهُ الشَّبَهِ؟ وهلْ أرادَ اللهُ أنْ يُشبِّهَ الحياةَ الدنيا بماءٍ؟ كلَّا، أنَّه لمْ يردْ ذلكَ، بل المرادُ هو التشبيهُ بهيئةٍ مخصوصةٍ، أيْ تشبيهُ حالِ الدنيا فِي نَضَارَتِهَا وبَهْجَتِهَا وَمَا يَتَعَقبها مِنَ الهلاكِ والفناءِ بحالِ النباتِ الحاصِلِ مِنَ المَاءِ، يكونُ أخضرَ ناضراً شديدَ الخضرةِ ثم ييبسُ فتطيِّرُهُ الرِّياحُ كأنْ لمْ يكنْ، فوجهُ الشَّبهِ هنَا صورةٌ لَا مفردٌ، وهذِهِ الصورةُ مأخوذةُ او منتزعةُ مِنْ أشياءَ عدَّةٍ، والصورةُ المشتركةُ بَيْنَ الطَّرفينِ هِيَ وجودُ شيءٍ مبهِجٍ يبعثُ الأَمَلَ فِي النُّفوسِ فِي أوَّلِ أمرِهِ ثمَّ لَا يلبثُ أنْ يظهرَ فِي حالٍ تدعُو إِلَى اليأسِ والقنوطِ.

ولتتضحَ الفكرةُ أكثرَ نتأملُ مثالاً آخرَ من شعرِ أبِي فِراسٍ الحَمْدانيّ:  

وَالماءُ يَفصِلُ بَينَ زَهـ  ۩۩۩  ـرِ الرَوضِ في الشَطَّينِ فَصلا
كَبِساطِ وَشيٍ جَرَّدَت  ۩۩۩  أَيدي القُيونِ عَلَيهِ نَصلا

يشبِّهُ أَبو فِراس حال ماء الجدول، وهو يجري بين روضتين على شاطئيه حلَّاهما الزَّهْر ببدائع ألوانه مُنْبثًّا بين الخُضرة الناضرة، بحال سيفٍ لماعٍ لا يزال في بريقِ جدَّته، وقد جرّدَه القُيُونُ على بساطٍ من حريرٍ مُطَرَّزٍ. فأَينَ وجهُ الشبهِ؟ أنظنُّ أَنَّ الشاعر يريد أنْ يَعْقِدَ تشبيهين: الأَولُ تشبيهُ الجدول بالسيفِ، والثاني تشبيهُ الروضة بالبِساط الْمُوَشّى؟ لا، إِنّه لم يرد ذلك، إِنما يريد أَنْ يشبّه صورةً رآها بصورة تخيّلها، يريدُ أنْ يشبِّه حال الجدول، وهو بين الرياض بحالِ السيف فوق البساط الموشَّى، فوجهُ الشبه هنا صورةٌ لا مفردٌ، وهذه الصورةُ مأخوذةٌ أَو مُنْتَزَعَةٌ من أَشياءَ عدَّةٍ، والصورة المشتركةُ بين الطرفين هي وجود بياضٍ مستطيلٍ حوله اخضرار فيه أَلوان مختلفةٌ.

فهذان التشبيهان اللذان مرّا بنا واللذان رأينا أنَّ وجهَ الشَّبهِ فيهما صورةٌ مكوَّنةٌ من أشياءَ عِدَّةٍ يسمَّى كلُّ تشبيهٍ فيهما تمثيلاً.

أنواع تشبيه التمثيل

النوع الأول

ما كانَ ظاهرَ الأداةِ، نحو قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾7، فالمشبَّهُ: همُ الذين حُمّلوا التوراةَ ولم يعقلوا ما بها: والمشبَّهُ به (الحمارُ) الذي يحملُ الكتبَ النافعةَ، دونَ استفادتهِ منها، والأداةُ الكافُ، ووجهُ الشبَّهِ الهيئةُ الحاصلةُ منَ التعبِ في حملِ النافعِ دونَ فائدةٍ.

النوع الثاني

ما كانَ خفيَّ الأداةِ: كقولكَ للذي يتردّدُ في الشيء بينَ أن يفعلَهُ، وألاّ يفعلَهُ (أراكَ تقدِّمُ رِجلاً وتُؤخِّرُ أخرَى)، إذِ الأصلُ أراكَ في ترددكَ مثلَ مَنْ يقدِّم ُرجلاً مرةً، ثم يؤخّرُها مرة ًأخرى، فالأداةُ محذوفةٌ، ووجهُ الشبهِ هيئةُ الإقدامِ والإحجامِ المصحوبينِ بالشَكِّ.

مواقع تشبيه التمثيل

الموقع الاول

أنْ يكونَ في مفتتحِ الكلامِ، فيكونَ قياساً موضِّحاً، وبرهانا مصاحِباً، وهو كثيرٌ جدًّاً في القرآن، نحو قوله تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.

الموقع الثاني

ما يجيءُ بعد تمامِ المعاني، لإيضاحِها وتقريرِها، فيُشبهُ البرهانَ الذي تثبتُ بهِ الدَّعوى، نحو قول الشاعر لبيد:

وما المالُ والأَهْلوُنَ إلاّ وَدائِعٌ  ۩۩۩  ولا بدَّ يوماً أَنْ تُرَدَّ الوَدائِعُ

ونحو قول الشاعر:

لا يَنزِلُ المَجدُ إِلّا في مَنازِلنا  ۩۩۩  وَمَنزل المَجد آل المُصطَفى وَعلِيْ
وَلَيسَ لِلمَجدِ مَأوى غَير ساحَتهِم  ۩۩۩  كَالنومِ لَيسَ لَه مَأوى سِوى المُقَلِ

أمثلة لتشبيه التمثيل

المثال 1

اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله  ۩۩۩  فالـنار تأكـــل بعضـــــــها إن لم تجد ما تأكل

  • المشبه : صورة الحسود إذا صبرت عليه وعلى حسده وسكتّ عنه وتركته في غيظه.
  • المشبه به : صورة النار عندما تأكل وتحرق الحطب ، ولا تجد شيئا تحرقه ، تعود لتحرق بعضها بعضا.
  • وجه الشبه : صورة شيء يُترك فلا يُلحق الأذى بغيره بل بنفسه.

المثال 2

ولنا قدرٌ تقلب العظام  ۩۩۩  كما يقلب الصبي المهاد

  • المشبه : صورة القدر الكبيرة التي يتقلّب فيها اللحم بفعل الغليان.
  • المشبّه به : السرير الذي يتقلب فيه الطفل بتأثير الهزّ.
  • وجه الشبه : وجود شيء يتحرّك في شيء آخر.

المثال 3

قالت الشاعرة مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري:

وما ترتجي من بنت سبعين حجّة  ۩۩۩  وسبع كنسج العنكبوت المهلهلِ
تدبّ دبيب الطفل تسعى إلى العصا  ۩۩۩  وتمشي بها مشيَ الأسيرِ المكبَّل.

  • المشبه : صورة الشاعرة تمشي ببطء على عصا متثاقلة بسبب الشيخوخة.
  • المشبه به : صورة مشي أسير أثقلت مشيته القيود.
  • وجه الشبه : صورة شيء يتحرك ويحدّ من حركته شيء آخر.

خلاصة

يُسمَّى التشبيهُ تمثيلاً إِذا كان وجهُ الشَّبه فيهِ صورةٌ مُنْتَزَعَةٌ منْ متعددٍ، وغيْرَ تَمْثِيل إِذَا لم يَكُنْ وجْهُ الشَّبَهِ كذلك.

تَشبِيهُ التَمْثيِلِ نَوْعَان: إمَّا ظَاهِرُ الأداةِ وإمَّا خَفِيُ الأداةِ.

لِتَشْبِيهِ التَمْثيلِ مَوْقِعَان: إمَّا فِي صَدْرِ الكلامِ وإمَّا بَعْدَ تَمَامِ المَعَانِي.