التسامح - تحليل نص 'دعوة إلى التسامح' لمحمد الحلوي
يَا أَخِي نَحْنُ فِي الحَيَاةِ على رَغْـــ مِ هَوَانَا وَأنْفِنَا أَخَــــــــــــــــــــــــــــــــــــوَانِ محمد الحلوي |
ملاحظة النص
عنوان النص خبر ومتعلقان به لمبتدأ محذوف لكونه معلوما يعمل النص على تجليته وتفصيل أبعاده، خاصة في البيت الأول والأخير والبيت الحادي عشر. ويتعلق الأمر بدعوة إلى التسامح والتحابّ والتآخي والتعاون على قيادة سفينة الحياة في بحر متقلقل، والتشارك في الاستمتاع بالصفاء والجمال والسلم والمحبة، ونبذ الأطماع والحروب وكل ألوان الصراع والمكر والوقيعة والجراح والآلام. دعوة أطلقها الشاعر المغربي الحديث محمد الحلوي متأثرا بالثقافة الإصلاحية، والنزعة الإنسانية الرومانسية، وواقع الاستعمار والحروب والتكالب على مناطق النفوذ والثروة.
فهم النص
وجه الشاعر نداءه في البيت الأول إلى الإنسان مطلقا مذكرا إياه بوشائج القرابة الطبيعية الجوهرية التي تربطه بغيره من بني جنسه، مستخدما لفظة ” أخي ” بصيغة الإفراد والتثنية، وضمير الجمع المتكلم، والجملة الإسمية الخبرية البسيطة للتأشير على أن مضمون النداء العاري من أدوات التوكيد يندرج ضمن المتيقن البسيط والمعقول المسلم به والبديهي الذي لا يحتاج إلى إثبات لاستبعاد كل أشكال المسافة المصطنعة التي قد تجعل منهما خصمين. مقرا في الوقت ذاته بوجود تلك المسافة المرتبطة بإرادات عرضية غير حرة تولدها نزعات شريرة، وميول أنانية، ويجسدها واقع ملموس، وتتمثل تركيبيا في أداة نداء البعيد ومعجميا في مادة دالة على الاختلاف.
يرى الشاعر أن دواعي التشارك والتماسك بين الناس أعظم من مبررات التفرق والاختلاف، فهم ينتمون إلى عالم شديد الاضطراب، تندر فيه مساعي التوافق والتفاهم، وتتضارب المصالح وتتفاقم الصراعات والمآسي، مما يحتم على الجميع التعاون لقيادة العالم إلى السلم وإرسائه على بر الأمان.
أطلق الشاعر في الأبيات 5 و6 و7 ثلاثة استفهامات أنكر فيها على الإنسان حبه للتصادم والصراع والمواجهة مع أخيه الإنسان، مع أن طبيعتهما الواحدة ومجالاتهما المشتركة تدفع إلى الانسجام والتكامل، وتدعو إلى الاستفادة من غنى الحضارة والفكر والفن والإبداع والاستمتاع بسحر الطبيعة وجمال الكون، بدل التدمير والتدمير المضاد، وزرع المآسي والأحزان، وهي أسئلة تراهن على قدرة الإنسان على كسب رهانات الحقيقة والخير والجمال التي تشكل السمات الجوهرية لماهيته وكنهه.
للشاعر نظرة خاصة إلى الحياة، وهي نظرة رومانسية حالمة، فيها غير قليل من الطوباوية التي تبحث عن عالم بديل للعالم الواقعي المبتذل وقيمه الرديئة، عالم ملؤه الصفاء والنقاء والمرح والأنس والجمال والإبداع والسلم والحب والأمل، وتمثل الطبيعة الجميلة بكل مكوناتها الصامتة والناطقة وأشكالها المتباينة رموزا لهذا العالم المثالي الذي يستمد مشروعيته كرؤية معقولة وطرح مطلوب من كون الإنسان أخ الإنسان، ولا يكون الأخوان إلا منسجمين، بينما تمثل الطبيعة المتوحشة ” الذئب ” رمزا لإنسان فقد روح الإنسان.
يرفض الشاعر قيم العالم الهمجي المتوحش القائم على تقمص أدوار الحيوانات المفترسة القائمة على العراك وإرضاء غريزة الطمع والسيطرة، والبحث عن السلم والحب والصداقة في مستنقع الدماء والعنف والكراهية والتربص.
يختم الشاعر قصيدته في الأبيات الثلاثة الأخيرة بدعوة صريحة مررها في جملتين استفهاميتين، بينهما نداء كرره في ثلاثة مواقع من النص منها مطلع القصيدة، إلى إعادة بعث الأدوار العظيمة للنخب المثقفة والمتدينة أصحاب الضمائر الحية في إرساء التقارب والتسامح والتعايش والسلم والمحبة.
تحليل النص
المستوى الدلالي
القصيدة صرخة قوية ضد القيم الرديئة التي توشك أن تحول الإنسان إلى وحش ضار يتخلى عن إنسانيته وما فيها من نبل وسمو وطهر وجمال وإبداع، ويمكن مفصلتها إلى أربع مفاصل دلالية نعنونها كالآتي:
- الأبيات الأربعة الأولى: إطلاق الشاعر نداء الأخوة والتعاون في عالم مضطرب مخيف.
- الأبيات من 5 إلى 12: استنكار الشاعر أشكال العنف والإقصاء والتمييز في عالم مفعم بالجمال والعذوبة محتاج إلى الصفاء والسلم والمحبة.
- الأبيات من 13 إلى 17: دعوة الشاعر إلى نبذ الحروب والصراعات والمطامع.
- الأبيات من 18 إلى آخر النص: حث الشاعر أصحاب الضمائر والمبادئ على إعادة الاعتبار لثقافة الحب والتسامح والتعايش.
وصف الشاعر الإنسان في ثنايا القصيدة بمجموعة من الأوصاف استقاها من واقعين: واقع كائن، وواقع مفترض، الكائن مرتبط بقيم سلبية ينكرها الشاعر مثل: (ذئابا – وقودا – غرقى نخوض في أشجان – مشتاق إلى الحرب – مضرج البنان بالدماء – ضحايا – ضدان…)، والمفترض متصل بقيم إيجابية يزكيها مثل: (أخوان – …)
يدعو الشاعر الإنسانية في القصيدة إلى التسامح والتعاون ممررا دعوته في نوعين من التركيب : مباشر قائم على خبر وإنشاء لا يتجاوزان ما يقتضيه الظاهر ولا تحتمل داخلهما المواد المعجمية أكثر من محمولاتها الدلالية الصريحة ، وغير مباشر متكئ على معان مستلزمة ودلالات سياقية وأدوار تركيبية وإيقاعية تتجاوز الإشارات الحرفية للكتل الصوتية واللفظية والعلاقات التركيبة، مما يؤشر على أن طبيعة النص الشكلية والمضمونية المنصهرة داخل رؤية جمالية رومانسية تتضافر بكل مكوناتها لدعوة الإنسانية إلى معانقة التسامح والجمال والنقاء.
المستوى الدالي
وظف الشاعر معجما مشبعا بألفاظ وعبارات دالة على الدعوة إلى التسامح، وهو معجم تشَكّل من ثنائية ضدية من القيم مرغوب فيها ومستنكرة، تنتشر على جسد النص بشكل متواز لتصنع مضمون نداء الشاعر إلى التسامح، ويمكن تمثيلها في الجدول الآتي:
القيم المستنكرة | القيم المرغوبة |
ضدان – الاختلاف – غرقى – نهدم – حرب – ضحايا – وقود – مطامع – يفنون – الافتراق – ذئابا | أخوان – تعاون معي – لا تكلني – نبني – سحر الطبيعة – جمال – أغاني – لحن الصفاء والسلم والحب والبشرى – إنسان |
النص قصيدة شعرية تختزن بعدا تصويريا كثيفا لا يخلو من تجديد في بعض ملامحه، رغم الطابع التقليدي العام لبناء الصورة، حيث تتوسل بالآليات البيانية من تشبيه واستعارة ومجاز، وتمتاح من الطبيعة والوجدان معظم أجزاء الصورة، فيمزج بينها على غرار التيار الرومانسي في الشعر، وهكذا يصبح العالم المضطرب زورقا فقد شراعه وربانه في بحر متلاطم الأمواج، ويصبح التسامح والتعايش تجديفا وإرساء على بر الأمان، والبغض والتصادم غرقا في الأشجان، ومكونات الطبيعة الساحرة رموزا للصفاء والعذوبة والجمال، والصفاء والسلم والحب ألحانا، والناي دعوة ، وبالمقابل فالإنسان ذئب ووقود، والدين ضائع ، وللضمير صوت، وغيرها من الصور الموحية.
الأسلوب اللغوي
للتكرار في النص بلاغة خاصة، سيما وأنه يتخذ أشكالا متعددة: صوتية ومعجمية وأسلوبية، ويعلن عن وظائف وأدوار دلالية وجمالية مؤثرة، منها التوكيد والإلحاح لتثبيت دلالة معينة في ذهن المتلقي، ومنها تكثيف القيم الموسيقية المكررة وتضخيمها لدعم تسلل الوحدات المعنوية المؤكدة إلى داخل المتلقي ومحاصرة حواسه، ومنها تأمين الكمّ الانفعالي المصاحب للمعنى عبر تكرار حزمة من الأساليب المتناغمة المدعومة بمواد معجمية وتركيبية متماثلة، ومنها ضمان متعة التلقي بتوزيع التكرار على مساحات تداولية متباينة ومنسجمة…
أكثر الشاعر من الأساليب الإنشائية، خاصة الاستفهام والأمر والنداء والنهي، وهي صيغ تتلاءم ومقصدية النص ورسائله الموجهة إلى الإنسان الداعية إلى التسامح ومعانقة الجمال، والرافضة للحروب والشنآن.
تركيب وتقويم
النص رسالة شعرية ذات بعد إنساني عام، تدعو الإنسان إلى التسامح والتعايش في عالم يتسع للجميع، ويوفر الكثير من إمكانيات تحقيق الرفاهية والسلم والمحبة والإبداع والاستمتاع بالجمال والصفاء والطهر، بعيدا عن ظلمات العنف والإقصاء والعدوان، وهي دعوة شكلت هاجس العقلاء وأصحاب الضمائر الحية، لكنها تصطدم بالوجه الآخر الكالح للإنسان، والذي لم يفتأ يستشري ويتعاظم داخل كيانات ولوبيات وقوى عظمى تتنكر لحقوق الإنسان رغم احتضانها لمؤسساتها، وتكيل بمكيالين وتفتح أبواب التأويل وتتذرع بالأعذار الواهية.