مفهوم التواصل - تحليل نص 'التواصل' لنور الدين أفاية

سياق النص

التواصل باللغة، وغير اللغة، وداخل المجال التداولي، والمخيلة فيه ركيزة أساسية، من انشغالات الفكر المعاصر الذي عاب على عقلانية الحداثيين، ممارسة سلطة العقل والعلم بكيفية آلية قزمت حضور الإنسان، وأفضت إلى إيديولوجية لا عقلانية تغيب فيها الأخلاق وتحضر السيطرة والتشييء، فالتواصل اللغوي وغير اللغوي يحمل خبراً يتحول إلى سلوك، ودلالة على مضمون، وتتعدد السلوكات والمضامين وتتعالق وتتفاعل فتسنج علاقات بين الأنا والآخر ليست دائما رهينة تواصل جيد، والتواصل الما بعد الحداثي هو تواصل مفتوح يعبر عن أزمة الكائن البشري في هذا الكون، وعجزه عن بناء جماعة إنسانية منسجمة رغم الشعارات المثالية للفكر الليبرالي الحر أول من ينتهكها منتجوها.

وفي هذا الإطار يحاول أفاية مقاربة مفهوم التواصل في كتابه ”المتخيل والتواصل، مفارقات العرب والغرب” حيث يرى أن وسائل التواصل الحديثة فرضت نفسها بصورها ومخيلتها في تكوين المعارف والتزويد بها، فتجاهلها تجاهل للواقع لا وعي به، وأن الضرورة باتت ملحة في ظل الآفاق المنفتحة للتواصل لتقييم الأنا والآخر لمدركاتهما عن بعضهما وتصحيح المختل منها في إطار تفاعل إيجابي بعيد عن الاستعلاء والهيمنة أوالرفض والمعاداة.

ملاحظة النص

بالنظر إلى عنوان النص، ومن خلال نظرة عمودية سريعة في صدور الفقرات يتضح أنه يرهن تقاطع الفردي والجماعي بوجودهما في دائرة التواصل القائم على انتقال الرسالة اللغوية أو الخدمات أو الممتلكات على نحو تفاعلي بين المرسل والمرسل إليه مبثوثة ومستقبلة داخل سياق سوسيوء سيكولوجي يضبط العلاقة بين أطراف عملية التواصل، بما يؤسس شكل التبادل داخل الجماعة المتواصلة على مستوى المدرك الذهني والسلوك الاجتماعي والوجداني، الذي لا يخلو من اضطراب أو تعقيد بسبب كثرة المعيقات المرتبطة بالمصالح أو الخلفيات الإيديولوجية.

فهم النص

تقوم مقاربة مفهوم التواصل في النص على دعامات فكرية أساسية هي:

  • التواصل شرط لقيام الحياة الاجتماعية باعتباره تبادلا لبلاغات مشحونة بدلالات متعددة سواء أكانت رموزا وعلامات أو خدمات وممتلكات.
  • التواصل وسيلة للتنشئة الاجتماعية لدوره في تكوين الفرد وتشكيل وعيه بنفسه وبالعالم بما يتمثله ويستضمره من تجارب وسلوكات من يتفاعل معهم.
  • اللغة بعلاماتها اللغوية وغير اللغوية أساسية في تأمين التواصل في إطار تبادلي تتسع دائرته لتشمل الجماعة اللسانية باعتبارها حاملة للمعاني والأخبار وقابلة للتفكيك والتأويل..
  • اعتبار العلامات غير اللسانية لغة تعكس سلوكا قابلا للإدراك، مرتبطا بحالات الوعي، ومصنوعا قصدا من أجل الإيحاء، أومن أجل أن يتأثر الشاهد بالرسائل مشفرة، أو حتى غير المقصود ولا الواعي، يدفع بالتواصل إلى تجاوز المرسل والمستقبل والتركيز على العلاقة التي تجمعهما.
  • طبيعة التواصل المعقدة باعتباره عملية تداولية تفاعلية قد تصادف معيقات مرتبطة بسوء الفهم وانعدام القصد وحالات مرضية لبعض الأطراف ومصالح خاصة وأحكام مسبقة، وهي معيقات تفضي إلى الغموض والاضطراب.
  • حصول عمليات التفاعل المتعددة والمعقدة داخل سياق تواصلي متناسب الايقاعات تحكمه اعتبارات نفسية ومستويات سياسية وسوسيواقتصادية وثقافية وسياسية خاضعة للمصالح والمرجعيات والمسبقات المتحركة داخل الرسمال الرمزي للجماعة التواصلية المحددة.

تحليل النص

المستوى الدالي

يتوزع النص حقلان دلاليان أحدهما لساني والآخر اجتماعي، ويصب الحقلان كلاهما في فلسفة التواصل مفهوما وتشكلا ووظائف وأبعادا، ويتعلق بمجال اللسانيات كل الكتل اللفظية المتعلقة بعالم الدلالات والرموز والعلامات والتداول ومنطق اللغة وعمليات الإرسال والتلقي والتعبير والانفعال والإدراك والتأويل، ويرتبط بعلم الاجتماع كل الألفاظ المحيلة إلى السلوك الاجتماعي الفردي أو الجماعي تبادلا كان أو وعيا أو تفاعلا أو تنشئة أو اتفاقا أو اعتباطا أو نمطا أو موقعا أو سياقا أو علاقات أو مستويات وعوامل، والملاحظ أن الحقلين متداخلين نظرا لأن الوظيفة التواصلية للغة لا تتحقق إلا بفعل التفاعلات الاجتماعية بكل مستوياتها وتعقيداتها وخلفياتها وقيودها.

المستوى الدلالي

يرى الكاتب أن التواصل يسهم في التنشئة الاجتماعية، وهو رأي لا يحتاج إلى تبرير لأن اللغة التي يتعلمها الإنسان وترافقه في حياته ببعديها اللفظي والأيقوني في جوهرها قائمة على أساس التواصل، فهي شرط للحياة الاجتماعية و ضرورة من أهم ضروراتها؛ وهي تحقيق التواصل في هذه الحياة وأساس لتوطيد التعايش فيها، ومن هنا لا يمكن تصور حياة بلا لغة، وكذلك لا حياة بدون تواصل. فالتواصل جوهر وجودي أساسي للإنسان، من خلاله يرتبط هذا الأخير بالأشياء ويبني إدراكا ووعيا خاصا، ويستفيد من تجارب ويستبطن رؤى ويكون قناعات وينشئ معاني وينسج قيما ومعايير للحكم على تلك الأشياء ويصنع صورا عن الآخرين وعن نفسه.

يشير الكاتب إلى أن التواصل قد يتعرض لعوامل سلبية تسبب له أضرارا بالغة، ذكر منها غموض الرسالة المتبادلة وسوء الفهم والاضطراب في العلاقة بين المتواصلين، وهذه العوامل مرتبطة إما بمرسلين ومستقبلين غير أسوياء تتحكم فيهم أنا مريضة أو متعالية، أو برسائل محكومة بمصالح ذاتية أحادية أو خلفيات إديولوجية أو عوامل نفسية أو سياسية أو مستويات اجتماعية واقتصادية أو حمولات ثقافية متعارضة أو أحكام جاهزة مسبقة، مما يعني أن التواصل البشري عملية بالغة التعقيد، وليست سلسة دائما، وتتطلب جهدا كبيرا من الأطراف المتعددة لتأمين الفهم والوصول إلى التفاهم.

معنى قول الكاتب أن ” كل تواصل يحمل في ذاته خبرا ويولد بالتالي سلوكا” يرتكز على أن اللغة في نظره حوار بين عقول المتحدثين، تهدف إلى إقامة جسر التفاهم وبلوغ الإجماع بصدد عدد من القضايا. واللغة هنا جملة قواعد تؤسس للاتصال بين الناس وليست أصواتا تلقى شذر مذر، بل إن كل فعل لغوي يندرج ضمن تحققات لها منطلقها واستعمالها الخاص، وهي مرتبطة بأنماط حياة كما يقول فيتجنشتاين، لذا فإن كلا من الصحة والمصداقية والمعيارية والمسؤولية تهم البعد القيمي للمنطوق وتقدم البرهان على ماتقول. ومن ثم فاللغة بوصفها نظاما رمزيا من ضمن الأنظمة الرمزية التي يسخرها العقل في استلهامه للخيال أو إدراكه المعقلن، تلعب دورا فاعلا في فهم الآخر (الغريب منه أو القريب) والأشياء الممكنة (الحدسية منها والمحسوسة) في عوالمنا. فمعرفة العالم وتمظهراته الاجتماعية يمر خلف إسار اللغة وقواعدها وتراكيبها وعن طريق التداول، فلكل حادث حديث ومتحدث وسياق. ونحن عندما نحاول أن نعبر عن شيء ما قد نصيب فيكون المعنى واضحا، وقد يخوننا التعبير فيكون المعنى غامضا، والمعنى هنا هو الشيء المحدد لمعظم تعبيراتنا الاتصالية. والاتصال عبر المعنى يسمى تواصلا، ولو خلا التواصل من المعاني لانتفى القصد والهدف من اتصال الإنسان باللغة والكلام. وغاية العقل التواصلي أن يجنح العقل الكامن فيه إلى التذاوت المؤدي إلى التفاهم وتداخل الحقائق، فالقول والفعل مرتبطان؛ وليس القول هنا بمعنى التصوير والتمثيل أو البيان. فالتواصل يشير إلى ما يفعله المتكلم بقوله، والغرض القصدي من ذلك هو التفاهم بين الذوات وهنا يرفض أن يبقى مفهوم العقل حبيس فلسفة الوعي القائمة منذ ديكارت على ثنائية الذات والموضوع والخير والشر…الخ. فمهما بلغ هذا العقل “الديكارتي” من قوة في حسن التفكير ودقة في التحليل، فهو عاجز اليوم عن تصور خلاص لأزمة البشرية. لذا تقترح فلسفة التواصل الاستغناء عن الذاتية (صوبجيچتيڢيتé) والاستعاضة عن الفكر الأحادي والتأمل المونولوجي بتواصل فكري مزدوج قوامه التذاوتية (ىنتيرسوبجيچتيڢيتé) مع الآخر وبالآخر، وهو محصلة العلاقة بين أنا وأنت. مما يفسح المجال إلى تواصل مزدوج قائم على الحوار المتبادل في مظهره العقلاني المقرون بسياق لغوي تداولي يعتمد البرهان وأسلوب المحاججة.

الأسلوب اللغوي

استثمر الكاتب في النص الكثير من أدوات الربط المنطقي والدلالي واللفظي، منطقيا شكل الانتقال من العام إلى الخاص، ومن الكل إلى الجزأ، وعبر علاقات السببية والتزامنية والاقتضائية مدخلا لبناء مفهوم التواصل وتفكيك أبعاده وتتبع معيقاته واستنتاج طبيعته التفاعلية المعقدة بشكل تحليلي وصيغ استدلالية صارمة تستمد قيمتها المنطقية من نتائج العلوم الللسانية والاجتماعية ونظرياتهما الأكثر تحيينا وتمحيصا، أما على المستوى التركيبي والأدوار الدلالية التي تضطلع بها أدوات الربط الشكلية فقد مثلت مجموعة من الأساليب ذات الطبيعة التفسيرية التي تسعى إلى بناء المفهوم وتشريح أبعاده وتوسيع نطاق تداوله عبر ركام من التصورات متعددة المرجعيات العلمية ذات كفاية منطقية رصينة، قنوات لتأمين الانسجام الدلالي والتماسك المنطقي، ومن ضمنها التكرار والترادف والاعتراض والضمائر وحروف التوكيد والعطف والتفسير، والألفاظ الدالة على العموم والتوصيف ( بصفة عامة، بوصفه تبادلا..، يمثل، يشكل…)، والوثوق والاستيقان ( لاشك أن ..، معلوم أنه..، المهم أن…)، والاسترسال في التحليل والاستنتاج ( وهكذا فإن، كما أنها، ثم إنه، ومن ثمة يغدو…، وبالتالي…، كل تواصل إذن…، كل هذا يفضي إلى …، والشرط والجزاء ( إذا تجاوز التواصل .. فإنه يصبح..، ومهما يكن… فإن هناك..، والاستدراك والإضراب ( ولكنها تشغل كذلك بما هو غير كلامي، بل إن …).

استخدم الكاتب اللغة التقريرية في عرض مفهوم التواصل، وهيمنت الجمل التقريرية على النص طالما أنه منشغل بمقاربة لمجال مفهومي يستدعي جهازا اصطلاحيا دقيقا مستمدا من مجال اللسانيات والسيميولوجيا وعلو الاجتماع والفلسفة وعلم النفس، وإلى معجم مباشر وتراكيب وظيفية ذات بعد وصفي وتفسيري كاف لتأمين وصول المفهوم واضحا ومقنعا إلى متلق خاص يفترض أنه يتحكم بشكل ما، أو على الأقل يسهم في بناء الأنظمة الرمزية الدالة المشكلة للوعي الإنساني المعاصر بما يختزنه من رؤى متوافقة أو متعارضة للأشياء والقيم والخير والجمال والأنا والآخر.

تركيب وتقويم

التواصل كما يقول شارلز كولي “هو العملية التي توجد بواسطتها العلاقات الإنسانية وتتطور…”، ولذلك فالبعد الواقعي للتواصل لا يتطلب التأسيس النظري بل يرتبط بانطباعية اللقاء ويظهر في تجارب التعاطف الوجداني والمعايشة النفسية والتخيل.

إن الرغبة في التواصل هي فعل يتأسس أولا وقبل كل شيء على الفهم والإحساس بالآخر في إطار تصوري موضوعي للعلاقات البشرية لا يكتفي بالتركيز على البعد الاقتصادي الاجتماعي بل يتعدى ذلك نحو الكشف عما في هذه العلاقات من معنى وجود ونمط حياة بالمعنى العميق والكوني للكلمة.

إن التواصل وإن كان ينطلق من إستراتيجية تحقيق الإنا والتأثير في الغير إلا أنه يهدف في العمق إلى تكوين فضاء عمومي يكون بمثابة مسطح تنبني فوقه العلاقات القائمة على الاختلاف والحوار وسيادة روح الديمقراطية والتسامح. من هذا المنطلق تدعو الفلسفة المعاصرة خاصة مع هابرماس وآبل وراولز وتايلور إلى تشييد نموذج آخر للتواصل يعوض التعاقد Cونتراتالاجتماعي الكلاسيكي بين الفرد والمجتمع بتوافق Cونسينسوس تبلوره المناقشة العامة عبر المداولة الحرة بين جميع أفراد المجتمع بهدف تجسيد المواطنة الديمقراطية التي تسمح بخلق علاقة تشاورية تشكل أرقى مستوى من الديمقراطية التمثيلية، وبإعادة الاعتبار إلى الذات الفاعلة في الفضاء العمومي والمشاركة بايجابية في الشأن العام. بيد أن “التواصل في مجتمع برجوازي معولم يتعثر بسبب المؤسسات المحافظة والعلاقات النزاعية بين الطبقات، ومن ثم ينبغي أن يكون التفاعل الاجتماعي ثوريا…” لكن إذا كان الواقع المعاش لا يحتمل انجاز الحلم الثوري كما تصوره فلسفة ماركس ألا ينبغي أن نبدأ في تطوير جذري لحقل التواصل بين البشر ونوفر معطيات يمكن تبليغها للآخرين رغم الحواجز والتحفظات البيروقراطية؟