النص الاستدلالي

كان غض الشباب، ناضر الوجه، مشرق الجبين؛ وكان عذب الصوت، حلو الحديث، لا تكاد تراه العين حتى تهواه النفس، ولا يكاد صوته يقع في الأذن حتى يصبو إليه القلب. كان حسن الزي، معنيا بثيابه وشكله عناية ظاهرة، لا يكاد يراه الرائي حتى يعلم أن له حظا من نعمة وفضلا من يسار، وكان طيب النشر لا يمر بمجلس من مجالس قومه إلا قالوا هذا مصعب بن عمير مقبلا يستدلون عليه بما تقدم بين يديه من عرف يتأرج به الهواء.

كان أبواه يحبانه ويؤثرانه، وكانت أمه تقف عليه حبها وحنانها، وتختصه بعنايتها، وتحكمه في ثروتها الواسعة ومالها الكثير.

كان لهذا كله أحدوثة قريش وموضوع أسمارها، تعجب بجماله البارع وشبابه الرائع وكثرة ماله، وكان سمح الخلق، رضي النفس، صافي الطباع، مهذب المزاج، وكانت أمنيته حياة هادئة وادعة قوامها العشرة وصفو الحديث.

أقبل ذات يوم على المسجد في الضحى، وكان فارغ البال، راضيا عن نفسه وعن الناس، ولم يكد يبلغه حتى سمع حوارا لا يخلو من عنف، فاستبشر ومنى نفسه ساعة قيمة. وما كان ألذ الحوار يشترك فيه شيوخ قريش!

أقبل الفتى حتى دنا من أحد هذه الأندية، فجلس غير بعيد واستمع للقوم، فإذا هم يختصمون في هذا الرجل الذي أحدث فيهم حدثا ليس منهم إلا كاره له ساخط عليه، لأنه يغير ما ألفوا من دين، ويجمع إليه أخلاطا من الناس، فيهم الحرالبائس والرقيق اليائس، فلا يكاد يتحدث إليهم حتى يزيل ما بينهم من فروق، وإذا هم جميعا إخوان قد زال ما في صدورهم من غل، وإذا هم يد واحدة. وهذا الرجل يجمع هؤلاء الناس إليه، فيعظهم وعظا لم يسمعوا مثله من كهانهم بمكة، ولم يسمعوا مثله من وعاظ العرب في الأسواق.

كان الفتى جالسا غير بعيد يسمع رفق الرفيق وعنف العنيف، ويود لو علم من أمر هذا الرجل الذي يختصم القوم فيه، أكثر مما يقولون، فينهض متثاقلا ويخرج من المسجد إلى دار ابن أبي الأرقم، يطرق الباب طرقا خفيفا، فإذا فتح له دخل فحيا، ثم جلس والقوم ينظرون إليه فيعجبون لمنظره الرائع، وكانوا جميعا يودون لو هدى الله هذا الفتى إلى الإسلام.

ثم يتصل حديث النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فينذر ويبشر ويقرأ القرآن، وينهض الفتى ويدنو من النبي ثم يبسط يده ويعلن الدخول في الدين الجديد.

كتم الفتى إسلامه مخافة أن تنكره أمه، وكان لها محبا، ولعله كان حريصا أيضا على ألا تنقطع معونتها له، فقد كان يجد في تلك المعونة ما ينفع به نفرا من أصحابه وإخوانه في الدين، ولكن قريشا علمت بأمره كما علمت أمه به، وما أسرع ما تنكرت له! وما أسرع ما مسه الضر وثقلت عليه أعباء الحياة! هنالك أصبح الفتى كغيره من أصحابه فقيرا بائسا، ولكنه كان كغيره من أصحابه صبورا يجد في الإسلام عزاء.

ولما اشتد الأمر بالمسلمين، وأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلى الحبشة، هاجر مصعب مع من هاجر، فأقام ما أقام واحتمل ما احتمل، ثم عاد فأقام مع النبي ولزمه. وضاقت الأرض بالمسلمين مرة أخرى فكانت الهجرة الثانية إلى الحبشة، فهاجر الفتى مع من هاجر، ثم عاد إلى مكة سيئ الحال، قد مسه الضر واشتد به البؤس، فرثت ثيابه حتى ما كانت تستر جسمه إلا في مشقة.

ولزم الفتى مجلس النبي، وحفظ فأتقن الحفظ، فإذا هو من فقهاء الصحابة وعلمائهم، وإذا النبي يرسله إلى الأنصار يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين، فكان بذلك أول مبشر بالإسلام كلف بنشر الدين خارج مكة.

ودنا موسم الحج، ورجع مصعب إلى مكة، فلم يفكر في أمه، وإنما مضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فخلا به، يعلمه علم المدينة وينبئه بأخبارها، والنبي عن ذلك راض. وتعلم أمه بمقدمه، فتبعث إليه من يلومه في هذا الذي تراه عقوقا، ويذهب إليها بعد حين، ولم يعبأ بلومها، ولكن يدعوها إلى الإسلام فتأبى عليه.

ويحمل مصعب لواء النبي في وقعة بدر، فيعود به ظافرا، حتى إذا كانت وقعة أحد، تقدم مصعب باللواء بين يدي النبي حتى وجد موقفه في ميدان القتال فثبت فيه. وتشتد صدمة قريش للمسلمين فيفترقون عن لوائه. ولكن مصعبا ثبت قدمه في الأرض، فيقبل عليه ابن قميئة فيضرب يده بالسيف فيقطعها، ويسقط اللواء، فيأخذه مصعب بيده الأخرى فتقطع أيضا ويبقى اللواء مرفوعا قد ضم عليه مصعب عضديه. ويهاجمه ابن قميئة مرة ثالثة، فينفذ الرمح في صدر مصعب، فيسقط ويسقط معه اللواء.

ثاب المسلمون بعد المعركة إلى الشهداء يوارونهم في قبورهم، فإذا مصعب قد خر على وجهه. ويهم المسلمون بدفنه فلا يجدون له كفنا، إنما هو ثوب رث قصير، إن أخفى رأسه أظهر رجليه، والنبي  يرى فيتلو قول الله عز وجل: ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ).سورة الأحزاب آية 23.

طه حسين (على هامش السيرة)

بطاقة التعريف بالكاتب طه حسين

مراحل من حياته

  • ولد في الرابع عشر من نوفمبر سنة 1889 بمصر
  • ضاع بصره في السادسة من عمره بعد إصابته بالرمد
  • حفظ القرآن الكريم وهو لم يتجاوز سنته العاشرة
  • غادر القاهرة متوجها للأزهر طلبا للعلم
  • التحق بالجامعة المصرية سنة 1908 وحصل على درجة الدكتوراه في الأدب العربي سنة 1914
  • سافر إلى باريس ملتحقا بجامعة مونبلييه، وحصل منها على دوكتوراه في علم الاجتماع سنة 1919
  • عمل استاذا لتاريخ الأدب العربي وأستاذا للتاريخ اليوناني والروماني.
  • عين وزيرا للمعارف سنة 1950
  • يعد طه حسين واحدا من أهم المفكرين العرب في القرن العشرين
  • توفي في 29 أكتوبر 1973

من مؤلفاته

  • في الأدب الجاهلي
  • الأيام
  • دعاء الكروان
  • شجرة السعادة
  • المعذبون في الأرض
  • على هامش السيرة
  • حديث الأربعاء
  • شجرة البؤس
  • من حديث الشعر والنثر
  • الوعد الحق

ملاحظة النص واستكشافه

العنوان

يتكون العنوان من ثلاث كلمات تكون فيما بينها مركبين اثنين: الأول وصفي/ بدلي (مصعب بن) والثاني إضافي (بن عمير).

بداية فقرات النص

معظم فقرات النص تبتدئ بالأفعال (كان – أقبل – كتم – ثاب…)، وفي بعض هذه الأفعال ضمير مستتر يعود على شخصية من شخصيات النص.

نوعية النص

سيرة غيرية ذات بعد إسلامي

فهم النص

الإيضاح اللغوي

  • ناضر الوجه: حسن الوجه وجميله، ذو بهجة ورونق وإشراق.
  • يصبو إليه: يحن إليه ويشتاق.
  • النشر / العرف: الرائحة الزكية.
  • غل: حقد وغش.

الحدث الرئيسي

إسلام مصعب بن عمير وتضحيته بنفسه وماله وجاهه في سبيل الإسلام.

تحليل النص

مراحل سيرة مصعب

  • مرحلة ما قبل إسلامه: كان شابا غنيا ماديا، فقيرا روحيا.
  • مرحلة إسلامه: إسلام مصعب بن عمير ومعاناته في سبيل الإسلام، وتحوله إلى فقير ماديا وغني روحيا.
  • مرحلة استشهاده: مكة – المدينة – جبل أحد –المسجد…

ملامح شخصية مصعب

  • أوصافه قبل إسلامه: غض الشباب – ناضر الوجه – مشرق الجبين – عذب الصوت – غني…
  • أوصافه بعد إسلامه: فقير – بئيس – صافي الطباع – صبور – متفقه في الدين – مشارك في الغزوات

الشخصيات والزمان والمكان

الشخصيات
  • الكفار: ام مصعب بن عمير – ابن قميئة.
  • المسلمون : مصعب بن عمير – الرسول صلى الله عليه وسلم – الصحابة – ابن أبي الأرقم
الزمان

بداية الدعوة الإسلامية

المكان

مكة – المدينة – جبل أحد – المسجد…

مقارنة النص بسابقه

  قرآن الفجر مصعب بن عمير
نوعية النص سيرة ذاتية سيرة غيرية
الضمير المستعمل في الحكي ضمير المتكلم ضمير الغائب
الشخصية الرئيسية السارد = الشخصية الرئيسية السارد ≠ الشخصية الرئيسية