النص الاستدلالي

كنتُ في العاشرة من عمري، وقد جمعْتُ القرآنَ كلَّه حِفْظًا، وجوَّدتُه بأحكام القراءة، وكان من عادة أبي رحمه الله أن يعتكف في أحد المساجد طيلة الأيام العشر الأواخر من شهر رمضان؛ يدخل المسجد فلا يَبْرَحُهُ إلا ليلةَ عيد الفِطْر؛ فهناك يتأمل،ويتعبَّد، ثم لا يرى من الناس إلا تلك الوجوه المدعوة الى دخول المسجد بدعوة القوة السامية والمنحنية في ركوعها والخاضعة لله والساجدة بين يدي ربها ليتدرك معنى الجلال.

وما حكمة هذه الأمكنة التي تقام لعبادة الله؟ إنَّها أمكنة قائمة في الحياة، تُشْعِرُ القلبَ البشريَّ في نزاع الدنيا أنه في إنسان لا في بهيمة...

ذهبتُ ليلةً فَبِتُّ عند أبي في المسجد؛ فلمَّا كنَّا في جَوْف آخر الليل أَيْقَظَنِي لِلسُّحور، ثُمَّ أَمَرَنِي فَتَوَضَّأْتُ لِصلاة الفَجْرِ، وَأَقْبَلَ هُوَ عَلَى قِراءَتِه؛ وأقبل الناس يَنقصدون المسجد، وجلسوا ينتظرون الصلاة وكانتِ المساجد في ذلك العهد تُضاءُ بِقَنَادِيلِ الزيت، في كل قنديل ذُبالة، يرتعش النور فيها خافتًا ضئيلاً كأنه بعض معاني الضوء لا الضوء نفسه ؛ فكانت هذه القناديلُ، والظلام يرتج حولها، تلوح كأنها شُقوقٌ مضيئةٌ في الجو، فلا تكشف الليلَ؛ ولكن تكشف أسراره الجميلة.

ثم يَشعر بالفجر في ذلك الغَبَش عند اختلاط آخِرِ الظلام بأول الضوء، شُعورًا نِدِّيًّا؛ كأن الملائكةَ قَدْ هبطت تحمل سحابة رقيقة، تَمسح بها على قلبه؛ ليَتَنَضَّر من يُبْسٍ، ويَرِقَّ من غِلْظَة.

لا أَنسى أبدًا تلك الساعةَ، وقدِ انْبَعَثَ في جوِّ المسجد صوتٌ غرِدٌ رَخِيم، وهو يُرَتّل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ َ} [النحل: 125]. وكان هذا القارئ يملك أَتَمَّ ما يَملِك ذو الصوت الرخيم؛ فكان يَتصرَّف به أحلى مما يَتصرَّف القُمْرِيُّ وهو يَنوح في أنغامه، وبلغ في التطريب كلَّ مبلغ يَقْدِر عليه القادر، وما كان إلا كالبُلْبُل هَزَّتْهُ الطبيعة بأُسلوبها، فاهتز يجاوبها بأسلوبه في جمال التغريد، وكان القلب وهو يتلقى الآيات؛ كقلب الشجرة يتناول الماء ويكسوها منه. وبدا الفجر كأنه واقفٌ يستأذن الله من هذا النور.

وكنا ونحن نسمع قرآن الفجر كأنما مُحِيَتِ الدنيا التي في الخارج وبَطَلَ باطِلُها، فلم يبقَ على الأرض سوى الإنسانيةُ الطاهرة، ومكانُ العبادة. أما الطفل الذي كان في يومئذ: فكأنما دُعيَ بكل ذلك ليحمل هذه الرسالة، ويؤديها الى الرجل الذي يجيء فيه من بَعدُ، فأنا في كل الحالات والأوجه أخضع لهذا الصوت: (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) [النحل الآية: 125] وفي كل ضائقة وضر أخشع لهذا الصوت: (واصبر وما صَبرك إلا بالله) [النحل الآية: 127]

مصطفى صادق الرافعي. وحي القلم.

بطاقة التعريف بالكاتب مصطفى صادق الرافعي

مراحل من حياته

  • ولد بمصر سنة 1880
  • حفظ القرآن الكريم وهو دون سن العاشرة.
  • تأخر في ولوج المدرسة، إذ لم يلجها إلا بعدما جاوز العاشرة من عمره بسنة أو سنتين.
  • نال شهادة الدروس الابتدائية في 17 من عمره.
  • فقد حاسة السمع في الثلاثين من عمره.
  • لم يعبأ بعلته فانكب على التعلم والاجتهاد دون كلل أو ملل.

أعماله ومؤلفاته

  • تحت راية القرآن
  • حديث القمر
  • وحي القلم
  • تاريخ الأدب العربي
  • رسائل الأحزان
  • السحاب الأحمر
  • أوراق الورد
  • إعجاز القرآن والبلاغة النبوية

ملاحظة النص واستكشافه

العنوان

يتكون من كلمتين تكونان فيما بينهما مركبا إضافيا. وتنتمي لفظتي العنوان إلى المجال الإسلامي.

بداية النص

نلاحظ فيها مؤشرات دالة على نوعية النص، وهي: [الشخصيات + الزمان + ضمير المتكلم + اNفعال…]، وكلها مؤشرات دالة على أن النص حكائي، وإذا أضفنا لهذه المؤشرات حالة التطابق بين السارد والشخصية الرئيسية، فإننا نفترض أن النص سيرة ذاتية.

نهاية النص

بالإضافة إلى المؤشرات السابقة في بداية النص، نإحظ أن ضمير الحكي تحول من الحكي بضمير المتكلم المفرد (كنت – عمري) إلى الحكي بضمير المتكلم الجمع (كنا – نحن)، مما يدل على شخصيات أخرى حاضرة في هذا النص الحكائي.

نوعية النص

النص مقطع من سيرة ذاتية ينتمي للمجال الإسلامي.

فهم النص

الإيضاح اللغوي

  • يعتكف: من اعتكف بالمكان: جلس به ولزمه، والمراد هنا هو البقاء في المسجد مدة من الزمن قصد العبادة.
  • يرتج: ارتج المكان ارتجاجا بمعنى: اهتز وتحرك.
  • ينوح: ناحت الحمامة: أصدرت صوتا رخيما عذبا يثير الشجن والبكاء.

الفكرة المحورية

تذكر الكاتب ليلة من ليالي رمضان قضاها مع أبيه في المسجد، ووصف أجواء العبادة وترتيل القرآن الكريم وتأثير ذلك على نفسيته ومستقبله.

تحليل النص

أحداث النص بوصفه سيرة ذاتية

  • استحضار السارد لطفولته، ولحظات اعتكاف أبيه، واNجواء الروحانية في المساجد.
  • تذكر السارد لحظة استيقاظه Nداء صإة الفجر رفقة والده في المسجد.
  • وصف جمالية صوت مرتل القرآن الكريم، وإحساسه وهو ينصت إليه.
  • تحول قرآن الفجر الذي سمعه السارد في طفولته إلى منهاج في كبره.

الشخصيات والزمان والمكان

  • الشخصيات: السارد – الأب – الناس – مرتل القرآن
  • الزمان: الفجر – الليل – ليلة عيد الفطر – الأيام العشر الأواخر.
  • المكان: المسجد

الحقول الدلالية

  • معجم الدين: القرآن – المساجد – المسجد – راكعة – الساجدة – عبادة الله – الصإة – يرتل.
  • معجم الطبيعة: الفجر – الليل – البلبل – القمري – الشجرة – سحابة – التغريد …

الدلالة

وظف السارد ألفاظا دالة على الطبيعة ليصف بها ما هو ديني بدرجة نشعر معها كأننا جزء من ذلك الوصف.

التركيب والتقويم

يستحضر السارد في هذا المقطع مكان سيرته الذاتية، لحظات من طفولته حيث كان يذهب إلى المسجد ليؤدي صلاة الفجر ويستمتع بالقرآن الكريم مرتلا، وقد تأثر السارد تأثرا شديدا بأجواء تلك المرحلة من حياته مما جعله يمعن في وصفها بدقة متناهية متوسلا بألفاظ الطبيعة كالبلبل والقمري والشجرة والسحابة للتعبير عن معاني غاية في الجلال والقداسة.

يتضمن النص قيمة إسلامية تتمثل في أهمية التعلق بالمسجد والقرآن الكريم في مرحلة الطفولة وما لذلك من أثر إيجابي على شخصية الإنسان عندما يكبر ... والدليل على هذه القيمة من النص هو قول السارد: (أما الطفل الذي كان في يومئذ: فكأنما دعي بكل ذلك ليحمل هذه الرسالة، ويَُؤديَها إلى الرجل الذي يجيء فيه ِمن بعد).