الطرح الإشكالي

إن انتقال الإنسان من مرحلة الطبيعة والتوحش والهمجية، إلى مرحلة المجتمع والتحضر وإنتاج الثقافة، دفع الأفراد إلى إيجاد جهاز يدبر هذا التعايش بينهم ويضمن استمراره، هذا الجهاز هو الدولة، وهو جهاز أثار حوله عدة نقاشات فلسفية تمحورت حول تعدد وتنوع الغايات التي من أجلها وجد هذا الجهاز، والتي أعطته مشروعية التواجد، إضافة إلى تنوع طبيعة السياسة التي تمارسها الدولة والتي قد تتخذ شكل حرب وقتال، كما قد تتخذ شكل توافق واعتدال، وأخيرا المفارقة التي تميز العلاقة بين غاية الدولة التي تتمثل في تجسيد قيمة الحق، ووسيلة هذا التجسيد التي تتخذ شكلا عنيفا، وهذا ما طرح علينا معالجة الأسئلة الموالية:

  • لماذا ظهرت الدولة؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟
  • ما هي المظاهر التي تتخذها ممارسة السلطة السياسية؟
  • هل الدولة جهاز لتجسيد الحق أم العنف؟

المحور الأول: مشروعية الدولة وغاياتها

غاية الدولة: الحرية والأمن

إن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة في – نظر باروخ اسبينوزا – بل إتاحة الفرصة لأجسام الأفراد وعقولهم بأن تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام ودون خوف، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداما حرا، لأن الحق الوحيد الذي تخلى عنه الفرد هو حقه في أن يفعل ما يشاء، وليس حقه في التفكير والتعبير، أي أن يحتفظ قدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة، وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير.

إذن فالغاية الحقيقية من قيام الدولة – حسب اسبينوزا – هي حرية التفكير، وضمان الأمن للأفراد، ومن يسلك ضد مشيئة السلطة العليا يلحق الضرر بالدولة.

الدولة تحقق للروح المطلقة

إن الدولة في – نظر فريديريك هيغل – هي التحقق الفعلي للروح المطلقة، وهي فكرة عقلانية موضوعية وكونية ذات طابع أخلاقي، كما أنها تمثل إرادة جوهرية متجلية، وبينة لذاتها، تعرف ذاتها وتفكر فيها، إن الدولة بوصفها تحققا للإرادة الجوهرية، هي غاية في ذاتها، لا يتوقف دورها ووظيفتها على الحماية والأمن، ولا يختزل في فرض السيادة والإخضاع، بل يمتد – في نظر هيغل – إلى نشر القيم الروحية والأخلاقية، والمبادئ العقلية الكونية، وهي قيم ومبادئ أساسية بالنسبة للمجتمع حتى يتمكن الإنسان من الاعتراف بإنسانيته.

المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية

السياسة صراع

ينبغي على الأمير – حسب نيقولاي ماكيافيلي – أن يستخدم كل الوسائل المتاحة للحفاظ على السلطة، وذلك بالاعتماد على القوانين إن كانت كافية، وعلى القوة إن اضطر إلى ذلك، أن يكون مستقيما في سلوكه، حافظا لعهده، أمينا في أعماله، إن حافظ ذلك على ملكه، وأن لا يفي بوعد سيضيع مصلحته، وأن يلتجئ إلى المكر والخداع والتمويه للبقاء على سلطته، مع القدرة على إخفاء هذه الصفات على الناس البسطاء، لأن من يمارس الخداع سيجد دائما بين الناس من يقبل إن ينخدع بسهولة، ويجب على الأمير – في نظر ماكيافيلي – أن يستخدم كل الوسائل الممكنة للحفاظ على السلطة، سواء كانت مشروعة أم غير مشروعة.

السياسة اعتدال

إن حسن المُلك لدى السلطان في – نظر عبد الرحمن بن خلدون – يعود إلى الاعتدال، فإن كان السلطان قاهرا باطشا بالعقوبات شمل الرعية الخوف والذل، والتجئوا إلى الكذب والمكر والخديعة، وإن كان رفيقا بهم متجاوزا عن سيئاتهم استناموا إليه ولاذوا به، إن الذكاء عيب في صاحب السياسة، لأنه إفراط في الفكر، يكلف الرعية فوق طاقتهم لنفوذ نظره، كما أن البلادة إفراط في الجمود، والطرفان مذمومان من كل صفة إنسانية، والمحمود – حسب ابن خلدون – هو التوسط، كما في الكرم مع التبذير والبخل.

المحور الثالث: الدولة بين الحق والعنف

العنف المادي المشروع

تقوم كل دولة – حسب ماكس فيبر – على العنف المادي باعتباره الوسيلة الناجعة لممارسة السلطة، وهكذا فالدولة المعاصرة هي تجمع بشري يطالب في حدود مجال ترابي معين بحقه في احتكار استخدام العنف المادي المشروع، وذلك لفائدته، إن ما يميز عصرنا هو أنه لا توجد جماعة سياسية، ولا يوجد فرد يكون من حقهما استخدام العنف، إلا شريطة موافقة الدولة على ذلك، وهكذا تعتبر الدولة – في نظر فيبر – هي المصدر الوحيد «للحق» في ممارسة العنف المادي.

دولة الحق والقانون

إن دولة الحق والقانون تؤدي إلى ممارسة معقلنة للسلطة – في نظر جاكلين روس – وهي دولة تتخذ ثلاث ملامح وهي:

  • الحق: الذي يتمثل في احترام الحريات الفردية والجماعية التي تتمسك بالكرامة الإنسانية ضد كل أنواع العنف والقوة والتخويف.
  • القانون: أي أن الكل يخضع لقانون وضعي تابع للمبدأ الأخلاقي، مع إمكانية حمايته من لدن قاض.
  • فصل السلط (السلطة التنفيذية، التشريعية، القضائية): وهي الآلية التي تحمي الدولة من السقوط في يد الاستبداد.

إن دولة الحق والقانون ليست صيغة جامدة، وإنما – هي حسب روس – عملية بناء وإبداع دائم للحرية.

استنتاجات عامة

لقد أوجد المجتمع جهاز الدولة استجابة لمجموعة من الحاجيات، وتحقيقا للكثير من الغايات وعلى رأسها: الحفاظ على الأمن، وضمان ممارسة الحريات الفردية والجماعية، والتصدي للأخطار الخارجية، ومعاقبة التجاوزات في الداخل، وكذلك السهر على تربية وتكوين المواطن من خلال تعليم المبادئ العقلية، ونشر القيم الأخلاقية، ومن هذه الأهداف والغايات تستمد الدولة مشروعيتها.

إن طبيعة ممارسة السلطة السياسية متعددة ومتنوعة، فقد تتخذ شكل قتال وصراع إذا كانت طبيعة الحكم استبدادية تتميز بالانفراد في اتخاذ القرار، كما يمكن أن تتخذ شكل توافق واعتدال في إطار الممارسة الديمقراطية التي تشرك الجميع في التقرير والتسيير.

تتخذ الدولة المعاصرة وجهين يبدوان متناقضان ولكنهما متكاملان في نفس الآن، فمن جهة تعتبر هي الضامن الأساسي للحق متمثلا في الحريات، وتطبيق مبدأ العدل والمساواة، ومن جهة ثانية تستعمل العنف المادي المشروع لضمان ممارسة هذه الحريات، والسهر على احترام القانون، لكن إذا كانت الشرعية صفة أخلاقية، فمتى كانت للعنف هذه شرعية؟