الإنسان والتنمية - تحليل نص 'التنمية الإنسانية' لنادر فرجاني
سياق النص
التنمية الإنسانية أو البشرية مفهوم رائج في الدراسات السوسيوسياسية والاقتصادية والاستراتيجية، ومتداول بشكل عريض لدى المؤسسات والمنظمات المحلية والدولية المهتمة بقضايا الإنسان وحقوقه، إذ بناء على الجهود المبذولة من قبل الأنظمة وصناع القرار في مجال تطوير حياة الإنسان وتحقيق كرامته، وتمتيعه بحقوقه، وتطوير قدراته تصنف الدول والأنظمة، ويتخذ بشأنها التعامل المناسب من قبل المجتمع الدولي ومؤسساته المؤثرة في الاقتصاد والسياسة. وقد كان موضوع التنمية الإنسانية محل مقاربات كثيرة تناولته من زواياه المتعددة مما أفرز العديد من المدارس والمناهج والنظريات المنشغلة به، ويقوم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي بنشر العديد من الأبحاث في مجال السكان والهجرة وسوق العمل والتعليم والفقر والتنمية، وكذلك الأمر بالنسبة للكثير من الهيئات الدولية ذات الصلة، والنص واحد من هذه الأبحاث التي تسلط الضوء على مفهوم التنمية الإنسانية ومداخلها الأساسية وعلاقاتها بالحريات العامة وحقوق الإنسان، وهو لنادر الفرجاني الذي يتولى رئاسة تحرير تقرير التنمية الإنسانية في البلدان العربية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة المذكور آنفا.
ملاحظة النص
العنوان مركب وصفي يضطلع الوصف فيه بوظيفة وسم الموصوف بأهم سماته وأظهرها بما يحقق كنهه وماهيته، والموصوف مبتدأ لخبر محذوف يستمد حضوره من داخل الممتد النصي، وهكذا يرهن النص العنوان داخل نسق تصوري تفسيري يستكشف العنوان ويستجليه.
الملفوظ الأول في الفقرة الأولى تحديد لمسار في التحليل والرؤية يقطع مع تصور قائم يحصر التنمية الإنسانية في تطوير الحياة المادية، ويقيم بدله تصورا يربطها بشكل أساسي بحاجيات أخرى غير مادية متلبسة بجوهر الحرية القادر على توسيع خيارات الناس وتحقيق الأفضل لهم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي.
فهم النص
تتداخل في النص مجموعة من الأفكار والتصورات أهمها:
- مركزية الحرية في مفهوم التنمية الإنسانية باعتبارها الآلية الوحيدة التي تتحقق عبرها إمكانات التنمية، وتصبح معها أدواتها أكثر فعالية، ومفرداتها أكثر تطورا وتجذرا وملاءمة، وهذه الحرية مرتبطة بتوسيع قدرة الناس على الاختيار بين البدائل المتوفرة أو الممكنة لضمان عيش كريم ماديا ومعنويا.
- اقتران التنمية بالحرية يضمن نبذ التمييز بكل أشكاله، وتنويع مجال الرفاهية ليشمل التنعم المادي والتمتع بالحقوق واكتساب المعرفة والجمال والكرامة وتحقيق الذات بالمشاركة في تدبير الحياة العامة.
- قيام التنمية الإنسانية على محورين: محور بناء القدرات البشرية لتحقيق رفاهية راقية، ومحور الاستثمار الفعال لهذه القدرات في كل مجالات النشاط الإنساني بما يحقق الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
- تنصيص تقرير التنمية العالمي على لامحدودية حقوق الإنسان، وعلى تطورها بموازاة مع تطور الإنسانية، وتأشيره على ثلاثة حقوق أساسية لا بد منها في أي تنمية هي: حق العيش حياة طويلة وصحية، وحق الحصول على المعرفة، وحق امتلاك الموارد اللازمة لمستوى معيشي لائق.
- اختلاف التنمية الإنسانية في نظر الكاتب عن التنمية البشرية بتجاوزها للاستحقاقات الثلاثة السالفة الذكر إلى استحقاقات إضافية تشمل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما يسمح بتوافر فرص الإنتاج والإبداع، والاستمتاع باحترام الذات، وضمان حقوق الإنسان، وغيرها مما يجسد مفهموم الحرية الأقدر على حفظ مكتسبات التنمية واستقرارها في الزمن والمكان.
تحليل النص
يتوزع النص حقلان معجميان، يحيل أحدهما على الجزء المادي للتنمية، ويجسد الثاني الشق المعنوي فيها، ويمكن بيان انتشار الكتل اللفظية المرتبطة بهذين الحقلين على جسد النص من خلال الجدول الآتي:
الحقل المعنوي للتنمية | الحقل المادي للتنمية |
الحرية – توسيع خيارات الناس – العيش الكريم – معنويا – نفسا – روحا – القضاء على أشكال التمييز – الأصل – المعتقد – اللون – الجوانب المعنوية – اكتساب المعرفة والجمال والكرامة – تحقيق الذات – المشاركة الفعالة في شؤون الاجتماع – الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية – توافر فرص الإنتاج والإبداع – احترام الذات – ضمان حقوق الإنسان – العدالة ... | ماديا – جسدا – الرفاهية – التنعم المادي – العيش – حياة طويلة – صحية – الحصول على المعرفة – توافر الموارد اللازمة – موارد بشرية – الاحتياجات الأساسية ... |
يتضح من خلال الفرق بين كتلة الحقلين الدلاليين أن التنمية الإنسانية أكبر من مجرد تحقيق الرفاهية المادية، وإن كانت هذه الأخيرة ضرورية وأساسية، ومدخلا رئيسيا لتجذير مفهوم التنمية الإنسانية وتأصيله، والذي هو في نهاية المطاف تنمية شاملة متكاملة للبشر ولمؤسساته الاجتماعية تستهدف تحقيق الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
اشتراط الكاتب مراعاة حقوق الإنسان لتحقيق التنمية الإنسانية تحصيل حاصل؛ لأنه لا وجود لتنمية والإنسان مسلوب الحقوق، فاقد الحرية، منتهك الكرامة، لا يملك القدرة على الإنتاج والإبداع والمشاركة في بناء نسيجه الاجتماعي الراقي بما يحقق مفهوم الإنسان بشكل عام.
لم يكن الكاتب منشغلا بعرض وجهة نظره فقط في قضية تسيل الكثير من المداد، وتتفاعل الرؤى والتصورات بصددها مع كثير من إجراأت التطبيق ومحاولات المواءمة مع المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية غير المستقرة في عالم طابعه التعدد الثقافي والإيديولوجي والتفاوت الاقتصادي والتكنولوجي، ولا المرنة بما يكفي لتنزيل مقتضيات التنمية الإنسانية تنزيلا سليما، وتثبيتها في أرضية صلبة يعمل الجميع على تمتينها وتحييد هشاشتها، بل كان الكاتب إلى حد ما مهتما بخوض جدل بشأن مفهوم التنمية الإنسانية ومفرداتها يحاول من خلاله تفهيم معارضي شمولية هذا المفهوم بأن الحرية أولا والخبز ثانيا، وأن الحرية بإمكانها أن تتدبر أمر الخبز، والعكس غير صحيح، معتمدا في هذا التفهيم على حجج من تارخ الحضارة، ومن واقع التنمية في العصر الراهن، حيث ظل العنف والإقصاء والتهميش والقمع وعدم احترام حقوق الإنسان وتقزيم إراداته وتضييق خياراته وطمس قدراته العائق الأكبر أمام التنمية الإنسانية بمفهومها الشامل.
اتكأ البناء الاستدلالي في النص على الكثير من الروابط المنطقية واللغوية التي حققت انسجام النص وترابط متوالياته الفكرية وتماسك هيكله الحجاجي بما يدفع المتلقي إلى التسليم بوجاهة التصور الذي يسوقه الكاتب ورصانة تحليلاته واستنتاجاته، ومن هذه الروابط تكرار ملفوظات تنتمي إلى جهاز اصطلاحي مضبوط ودقيق يستمد حمولته المنطقية من علوم الاقتصاد والسياسة والاجتماع، ولا يختلف حول مدلوله وسياقات استثماره، ومنها بناء التصورات ارتكازا على آخر نتائج الأبحاث ذات الصلة بالتنمية، وأحدث مقررات المنظمات الدولية ومواثيق حقوق الإنسان، ومنها اهتمامه بالتفصيل والتفسير الدقيق والمسهب لمحاصرة أسئلة المتلقي المفترضة، وملاحقة الفكرة ومطاردة المعنى بما يحقق الكفاية التفهيمية المطلوبة، ومنها توظيفه أدوات التوكيد والنفي لتغطية الوضعيات الجدلية التي تقتضي تثبيت تصور ونسف آخر، ومنها علاقات السببية التي تدخل الأفكار بعضها في بعض، وتصنع منها متوالية منطقية يصعب اختراقها ودحضها، ومنها منهج التدرج الذي استلزم انتقال النسق الفكري المنطقي للنص من العام إلى الخاص، ومن طرح الإشكال إلى التحليل فالإستنتاج.
تركيب وتقويم
يطرح النص قضية جوهرية في الحياة الإنسانية الراهنة، وهي قضية التنمية البشرية، ويرى الكاتب أن تحققها رهين بتوفر أرضية حقوقية صلبة تحفظ للإنسان كرامته وحريته، وتوفر له المعرفة الكافية والمتاحة والبيئة اللائقة والموارد المناسبة لرقيه وإظهار قدراته، وتضمن مشاركته الفعالة في تدبير الحياة العامة بما يملك من طاقات وينتج من إبداعات تجعل منه إنسانا راقيا محترما.
ويبدو أن تصور الكاتب، وإن كان مقنعا، مثالي إلى حد ما؛ لأنه يغيب الكثير من الإكراهات والقيود التي تحول دون أجرأة هذا المفهوم حتى في الدول الأكثر تقدما وتجذرا في الديموقراطية، والأحرص على احترام حقوق الإنسان، لما تعرفه حركية المجتمعات والأنظمة وأروقة السياسيين وكواليس صانعي القرار، وتعسفات مراكز الضغط وأصحاب المصالح من تكييف لهذه المبادئ النبيلة وتصريف لها بما يخدم أهدافا قذرة تهين فئات من الناس في أوطانهم أو في بلاد المهجر، فتنتهك كرامتهم وتعيق إقلاعهم الاقتصادي وجهودهم في تنمية الإنسان، وتطمس هوياتهم وتحتقر خصوصياتهم، وتكرس التبعية والتمييز وتصادر الحريات، وتجهض المبادرات وتساند الديكتاتوريات حماية لمصالح اقتصادية أو تصفية لحسابات إيديولوجية بغيضة.