الطرح الإشكالي

يرتبط مفهوم الحرية بالتخلص من مختلف الإكراهات، سواء كانت من طبيعة بيولوجية أو نفسية أو اجتماعية …، ونظرا لهذه الجوانب المتباينة التي يحيل عليها مفهوم الحرية، فإن تحديده يطرح الكثير من الصعوبات، فإذا كانت الحرية خصما عنيدا للحتمية، فإن ذلك سيلقي في بها أحضان العفوية والصدفة، إذا أما كانت خاضعة لقانون ما، فهذا سيطرح مسألة الإرادة موضع تساؤل، فالإرادة تستدعي الحديث عن المسؤولية، إذ بدون مسؤولية لا يمكن التحكم في حرية الإرادة، وهذا ما يمكن أن نعبر عنه من خلال الإشكالات الفلسفية التالية:

  • ما طبيعة العلاقة بين الحرية والحتميةّ؟
  • ما هي تجليات حرية الإرادة؟
  • كيف يؤطر القانون الحرية؟

المحور الأول: الحرية والحتمية

التوازن بين الحرية والحتمية

إن الحرية في – نظر أبو الوليد بن رشد – لا يمكن فصلها عن الحتمية، فالإنسان له قدرة وإرادة يستطيع بهما فعل الخير والشر وباقي الأضداد الأخرى، ولكنه في نفس الوقت محكوم بضرورات مثل قوانين الطبيعة وقوى الجسد المخلوقين من طرف آلله، وهكذا لا يمكن تصور الفعل الإنساني – حسب ابن رشد – حرا بشكل مطلق، ولا مقيدا بشكل مطلق، إنه فعل يتركب من حرية الاختيار والقدرة والإرادة، إلا أنه محدود بقدرات البدن ومشروط بقوانين الطبيعة التي خلقها آلله

الحرية النسبية

إذا كان التفكير الموضوعي الذي ينطلق من الوجود الموضوعي للكائن يذهب إلى أن أفعالنا ينبغي أن تأتي بالضرورة من الخارج، وبالتالي فلا وجود للحرية إطلاقا، وإذا كان التفكير التأملي عند دراسته للوعي، يقر بأن أفعالنا إنما تنبع من الداخل، وهكذا فحريتنا حرية مطلقة، فإن موريس ميرلوبونتي يعتبر أن الحرية عند الإنسان هي حرية نسبية، لأن التعرف على نظام الظواهر يبين لنا أننا مندمجون مع العالم والغير اندماجا وثيقا لا ينفصل، وبناء عليه، فإن الوضعية التي نكون فيها، تلغي الحرية المطلقة عند بداية الفعل وعند نهايته، وفي هذا الوضع يستطيع الإنسان أن يدخل تعديلات إرادية واعية على وضعه المعطى.

المحور الثاني: حرية الإرادة

الأخلاق والإرادة الحرة

لقد اعتبر إيمانويل كانط مجال الأخلاق هو مجال ممارسة الإرادة الحرة لفعلنا، فالإنسان بوصفه كائنا عاقلا يستطيع اعتمادا على إرادته الحرة وضع القوانين العقلية للفعل الإنساني، والخضوع لهذه القواعد، فكل كائن عاقل هو كائن يتمتع بحرية الإرادة والقدرة على القيام بالفعل الأخلاقي، ولا معنى للفعل الأخلاقي في غياب الحرية – حسب كانط – هكذا تشتق الأخلاق من حرية الإرادة.

إرادة الحياة

عندما وجد الحيوان – الإنسان كإرادة حياة في هذا الكون، لم يكن لوجوده أي هدف أو غاية حسب فريدريك نيتشه، لذلك أبدع المثل الزّهدي باعتباره أخلاقا كاملة، لكي يعطي لحياته معنى، وفي رغبته للوصول إلى الكمال الأخلاقي، عمل على نفي الحياة ذاتها من خلال إقصاء كل ما هو مادي، غريزي – حسي في الإنسان، لذلك ين دعا تشه إلى مقاومة المثل الزّهدي بإرادة حرة، تطلب الحياة وتدافع عما هو إنساني في التجربة الإنسانية، أي إرادة الحياة.

المحور الثالث: الحرية والقانون

الدستور كضامن للحرية

إن الحرية في الأنظمة الديمقراطية – حسب مونتسكيو – هي الحق في القيام بكل ما تسمح به القوانين، فإذا كان كل مواطن يستطيع القيام بفعل تمنعه القوانين، فلن تكون له في المستقبل حرية ما دام الآخرون أيضا لهم نفس القدرة على فعل ما يشاءون، إن الحرية السياسية لا توجد إلا في الحكومات المعتدلة، وبما أن كل سلطة تميل إلى التعسف، ينبغي أن تنظم الأشياء بحيث تجد السلطة نفسها محدودة بسلطة أخرى، ويمكن في هذا السياق أن يصاغ الدستور بحيث لا يلزم أحدا بفعل مناف للقانون، وبأن يسمح لكل مواطن بحق عدم القيام بفعل يخوله له القانون.

السياسة كمجال لممارسة الحرية

إن المجال الذي عرفت فيه الحرية باعتبارها ممارسة فعلية في الحياة اليومية هو مجال السياسة – حسب حنا أرندت –، من المؤكد أن الحرية بمكن أن تسكن أفئدة الناس باعتبارها رغبة، أو إرادة، أو أمنية، أو طموح …، غير أن قلوب الناس مكان غامض، لا يمكن معرفة ما يجري في ظلمته الداخلية، إننا لا ندرك الحرية أو نقيضها إلا عندما ندخل في علاقة مع غيرنا، باعتبارها وضعا للإنسان الحر الذي يسمح له فيه بالتنقل وبالخروج من منزله وبالتجول في العالم والالتقاء بغيره، فلا يكون للحرية تحقق فعلي في العالم الذي يسمح بممارسة الفعل والكلام، مثل المجتمعات الاستبدادية التي تعتقل رعاياها داخل بيوتهم الضيقة، وتمنع بذلك ميلاد حياة عمومية، فبدون حياة عمومية مضمونة سياسيا، لا يمكن للحرية أن تتجلى، إذ ينقصها الشرط اللازم لظهورها وهو المجال العام.

استنتاجات عامة

إن للحرية عند الإنسان تجليات كثيرة تتمثل في عدم خضوعه لغرائزه، بل التحكم فيها من خلال تأجيلها، عكس الحيوان الذي يخضع لها خضوعا ضروريا، كما تتمثل في كونه يمكن أن يقول للشيء "لا" أو "نعم" حسب اختياره، إضافة إلى قدرته على القيام بالفعل ونقيضه حسب رغبته وحرية إرادته، لكن هذه الحرية تبقى محدودة بحدود حريات الآخرين، وبالقوانين المادية (فيزيائية، بيولوجية… )، والظروف التاريخية (الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية…)، التي يتموضع ضمنها الفرد.

إن الحرية الإنسانية ترتبط بالمسؤولية، ففي غياب هذه الأخيرة تتحول إلى فوضى، لذلك عمل المجتمع على تقنينها بقانون يحدد الحقوق (الحريات) والواجبات.

إذا كان الاستبداد نظاما سياسيا لا توجد فيه إلا الواجبات، وتغيب فيه الحقوق والحريات، وإذا كانت الفوضى حالة تسود فيها الحريات المطلقة في غياب الواجبات، فإن الديمقراطية نظام سياسي معتدل يوجد بين الاستبداد والفوضى حيث ينبني على التوازن بين الحقوق والواجبات بموجب قانون عادل.